تأتي أهمية هذا الكتاب في تقديرنا من أن مؤلفه يؤمن بالعدالة الاجتماعية في ظل النظام الرأسمالي وبذلك فهو من الناحية الأيديولوجية لا يمكن وصفه خصماً أو متحاملاً على هذا النظام كما درجت العادة على وصف الكتاب والمفكرين الماركسيين في تصديهم لتحليل الأزمات البنيوية للرأسمالية.
في الحقيقة أن أزمة النظام الرأسمالي قد طفت على السطح، أولاً، في تسعينات القرن العشرين، في الاقتصاديات الناشئة. وبلغت الذروة في الدول الصناعية في مطلع الألفية الثالثة، وذلك حين انهارت أسهم الشركات المتخصصة في التكنولوجيا الجديدة. ومنذ ربيع 2007 أخذت الأزمة المالية تزعزع اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية برمته وتعاظمت عام 2008 فاتخذت أبعادا عالمية.
يستهل الكاتب التأكيد بأن الاقتصاد، الذي عرفناه حتى الآن، انهار في خريف 2008 بكل تأكيد. وسيتخذ العالم شكلاً مختلفاً في المستقبل، سيطفو على السطح نظام عالمي جديد، سيتبلور اقتصاد سوق قائم على مبادئ العدالة الاجتماعية. ومهما اختلفت الأجوبة حول أسباب الانهيار فإن ثمة حقيقة لا اختلاف عليها أبداً: وهي أن العصر الذهبي، الذي تمتعت به البلدان الصناعية الغربية منذ التسعينات، قد صار في ذمة التاريخ. ففي خريف 2008 انتهت، بنحو مفاجئ، حقبة الهناء، فقد انهارت أسواق المال، وذهب مع الريح الحلم بازدهار مستديم. فالزلزال الذي ضرب البورصات فاق كل الزلازل التي عصفت بها حتى الآن، منذ اندلاع الكساد الكبير وانتهاء بالحرب العالمية الثانية. إن النظام الرأسمالي المحرر من القيود يقف الآن على عتبة الهاوية. لقد صرنا شهود عيان على حدث متعدد الأبعاد، شهود على تحول تاريخي كبير. فالدولة تنقذ مصرفاً تلو الآخر، وتؤمم الواحد بعد الآخر، إنها تضخ في الاقتصاد مبالغ لا قدرة لنا على تصور ضخامتها، ورغم ذلك، فإن نجاحها في وقف الانهيار يظل في علم الغيب.
صارت الرأسمالية المحررة من القيود والتوجيه تدمر أكثر فأكثر. ولهذه الأسباب ما عاد كثير من المواطنين يصدقون تحقيق الرفاهية التي وعدتهم بها فئات معينة من الاقتصاديين والسياسيين ورجال الأعمال ومجموعات الضغط التي همها الأول هو الدفاع عن مصالح فئات معينة (اللوبي)، فهؤلاء جميعا لم يكفوا قط عن الإشادة بمحاسن اقتصاد السوق المعولم. فلم يعد المواطنون يثقون بأن المنافسة في الأسواق العالمية والمباراة الضارية في البورصات تسبغ النفع عليهم. إن عدد المواطنين النافرين من اقتصاد السوق في تزايد مستمر. أضف إلى هذا أن هؤلاء صاروا يتحفظون على الإطار السياسي المناسب لاقتصاد السوق، وعن الديمقراطية أيضاً؛ وأنهم يشيحون بوجوههم عن الأحزاب السياسية، ويتخلفون عن المشاركة في الانتخابات، ويعتزلون المجتمع. فهم يشعرون بأنهم باتوا بلا عون ولا سند، باتوا يشعرون بأن الدولة تعير اهتماماً للآخرين فقط وليس لهم، وبأن السوق، التي يُفترض فيها أن تحقق لهم الرفاهية، أخذت تتصرف، في كثير من الأحيان، بوحشية لا تعرف الرحمة.
ولإثبات ذلك يذكر الكاتب يكفينا أن نستشهد بالاستطلاع الذي أجرته الصحيفة الاقتصادية فاينانشل تايمز عام 2007، حيث كانت الأغلبية العظمى من مواطني الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإسبانيا تعتقد أن العولمة خطر يهددهم. وعلى الصعيد نفسه يقر الرئيس الفرنسي ساركوزي بوجود “فزع متزايد من العولمة” وأنها “خطراً وليس نعمة” وقال أوباما بالحرف الواحد “إننا نواجه أعظم تحد في حياتنا” وفي ألمانيا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا أكد 90% من المواطنين رغبتهم في أن تحمي الدولة الاقتصاد الوطني بفعالية أكبر.
لقد استُعيض عن اقتصاد السوق المتكلف بالرعاية الاجتماعية بنموذج جديد يتصف بالوحشية والأنانية، ويطلب من بني البشر ما لا طاقة لهم به. فقواعد هذا النموذج لا تحددها الدولة، بل تمليها المشاريع العملاقة وأسواق المال. ففي الثلاثين عاماً المنصرمة كفت الدولة ومعها السياسيون المنتخبون وفق قواعد الديمقراطية عن التدخل في اقتصاد السوق تاركة قوى السوق تصول وتجول بالنحو الذي يطيب لها، أي أن الدولة والسياسيين تركوا الاقتصاد الوطني توجهه حفنة رجال تهيمن على الشركات العملاقة والمصارف ولا تتمتع بأي شرعية ديمقراطية. ومن ذلك الحين، أطلقت الرأسمالية العنان لطاقاتها الجامحة، لطاقاتها المعظمة للرفاهية من ناحية، والمدمرة لوحدة المجتمع من ناحية ثانية.
تفاوت صارخ في توزيع الثروات
وفيما يتعلق بالتفاوت الصارخ في توزيع الثروات يركز الكاتب على الأوضاع في الولايات المتحدة حيث بات التفاوت أكثر تطرفاً. وكذلك في الاقتصاديات الناشئة، حيث تزداد عمقاً وبسرعة الهوة الفاصلة بين الطبقة العليا وباقي المجتمع. فحاصل جمع الثروة التي يمتلكها 1125 مليارديرا في العالم، عام 2008، بلغت 4400 مليار دولار. لذلك، يمكن القول أن هذه الفئة من أغنى الأغنياء تملك ثروة تساوي تقريباً مجمل الدخول التي يحصل عليها في عام واحد نحو ثلاثة مليار مواطن، أي التي يحصل عليها مجمل سكان الهند وباكستان وبنغلاديش وتايلاند وماليزيا وفيتنام والفلبين ودول القارة الأفريقية جميعها.
وقد أقر غرينسبان الرئيس السابق للمصرف المركزي الأمريكي عام 2007 “إن النمو كان في مصلحة الفئات ذات الدخول العالية في المقام الأول، أما العمال الذين يحصلون على دخول لا تزيد على المتوسط المتعارف عليه فإنهم في وضع لا يحسدون عليه أبداً. إن هذه الظاهرة يمكن أن تؤدي إلى توترات اجتماعية عظيمة، لا بل يمكن أن تفضي إلى انقلابات اقتصادية جذرية”. فأغنى الأغنياء، أي 1% من سكان الولايات المتحدة، يملكون أكثر من نصف الأسهم المتداولة في البورصات الأمريكية. وفي ألمانيا تزداد فجوة التباين بين الفئات الاجتماعية المختلفة. فالأغنياء وقادة الشركات والمشاريع اعتزلوا المجتمع وكأنهم يعيشون في عالم آخر. فالدخل السنوي، الذي يحصل عليه رئيس شركة بورشة بلغ نحو 60 مليون يورو عام 2007. وبفضل الأرباح الضخمة يمكن أن يرتفع هذا الدخل إلى 100 مليون يورو عام 2008. والجزء الأعظم من الطبقة الوسطى انحدر نحو الأسفل. فأكثر من 25% من المواطنين الألمان يحصلون على دخل لا يساوي حتى 70% من متوسط الدخل السائد في ألمانيا. وقد قال واكسمان عضو الكونغرس الأمريكي في معرض استجواب الأطراف ذات الصلة بالرواتب الخيالية التي يحصل عليها رؤساء وكبار موظفي الشركات: “توجد في بلادنا حقيقتان مختلفتان: فأغلب الأمريكيين يعيشون في عالم لا يبشرهم بمستقبل اقتصادي مأمون ولا ينطوي، بالنسبة إليهم، على بوادر تمن بالغبطة، بل على إحباط وخيبة أمل. أما قادة مشاريع وشركات بلادنا، فإنهم يعيشون في ظل قواعد وشروط تختلف اختلافاً تاماً على ما يبدو”. ولايزال هناك سياسيون يدافعون عن هذا التفاوت الكبير في الدخول. وينتمي أغلب هؤلاء إلى المحافظين. فهم يؤكدون أن هذه الرواتب الخيالية جزء من الاقتصاد الحر. غير أن الجدل أخذ يزداد حدة في الولايات المتحدة، اليوم، حول مدى التفاوت الذي يمكن للمجتمع أن يرضى عنه. وقد تساءل شيلر وهو احد أشهر الاقتصاديين في العالم “أنريد الانتظار إلى أن يؤدي التفاوت الاجتماعي إلى اندلاع حرب أهلية؟”.
ويشهد الواقع أن المجتمع الصيني ليس منسجماً مع نفسه. فالازدهار، الذي تحقق، أي معدلات النمو البالغة 10%، لم تدر بنعمها على الجميع أبداً. فملايين من الصينيين تخطاهم النمو الاقتصادي ولم يمن عليهم بشيء يذكر: المقصود المزارعين الذي سُلبت منهم الأراضي، وأبناء المدن العاطلين عن العمل، والأطفال الذين لا قدرة لآبائهم على تدبير مصاريف مدارسهم، والمرضى الذين لا يستطيعون دفع تكلفة الطبيب.
ويعيش ملايين من مواطني الاتحاد السوفيتي السابق عيشة الكفاف. ففي حقبة التحول، واختفاء الاقتصاد المخطط، انخفضت دخول الروس العاديين بنحو الثلثين، فاليوم، يحصل نحو ثلاثة أرباع الروس، على دخل أقل من 50 دولاراً، أسبوعياً. بينما حفنة من الأغنياء الذي أثروا بسرعة فائقة تتمتع في سكنى القصور الكبيرة والنزهة بسفنها وطائراتها الخاصة، وتؤمن سلامتها من خلال ما لديها من جهاز أمني. كما اختفت أو كادت تختفي حرية الصحافة. فالصحافة المقربة من الكرملين تسيطر على البلاد، والمعارضة والمنظمات غير الحكومية أمست تخضع لوصاية الدولة.
تتكون، في الاقتصاديات الناشئة، طبقة فقيرة محرومة من ثمار الازدهار الاقتصادي. ويحصل هؤلاء الأفراد، الموجودون في أدنى السلم الاجتماعي، على قوتهم من الأعمال المتواضعة، من خلال خدمة المرفهين الذين يستغلونه كأنهم من الرقيق. ويجمع البعض منهم قوته من القمامة. إن الفقراء نادرا ما تكون لديهم الفرصة لتحسين أوضاعهم المعيشية. حيث ينقصهم أهم شرط للنجاح وهو التعليم المناسب.
تأليف الاقتصادي : أولريش شيفر
ترجمة : عدنان عباس علي