ملحق (6) من كتاب -ما بعد الرأسمالية المتهالكة
يقع في خطأ كبير من يعتقد أن ظهور حركات سياسية مرتبطة بالإسلام، تعبئ جماهير واسعة،
- هي ظاهرة مرتبطة بشعوب متخلفة ثقافياً وسياسياً على المسرح العالمي، وهي شعوب لا تستطيع أن تفهم سوى اللغة الظلامية التي تكاد ترتد لعصورها القديمة وحدها. وهو الخطأ الذي تنشره، على نطاق واسع، أدوات الاتصال المسيطرة، التبسيطية، والخطاب شبه العلمي للمركزية الأوربية. وهو خطاب مبني على أن الغرب وحده هو القادر على اختراع الحداثة، بينما تنغلق الشعوب الإسلامية في إطار تقاليد “جامدة” لا تسمح لها بفهم وتقدير حجم التغييرات الضرورية.
ولكن الإسلام والشعوب الإسلامية لها تاريخها، مثل بقية الشعوب، والذي يمتلئ بالتفسيرات المختلفة للعلاقات بين العقل والإيمان، وبالتحولات والتغيرات المتبادلة للمجتمع وديانته. ولكن حقيقة هذا التاريخ تتعرض للإنكار لا على يد الخطاب الأوربي المركزي وحسب، بل أيضاً على يد حركات الإسلام السياسي المعاصرة. فكلا الطرفين يشتركان في الواقع، في الفكرة الثقافية القائلة بأن المسارات المختلفة للشعوب لها “خصوصيتها” المتميزة غير القابلة للتقييم والقياس والعابرة للتاريخ. ففي مقابل المركزية الأوربية، لا يقدم الإسلام السياسي المعاصر سوى مركزية أوربية معكوسة. وظهور الحركات التي تنتسب للإسلام هو في واقع الأمر التعبير عن التمرد العنيف ضد النتائج السلبية للرأسمالية القائمة فعلاً، وضد الحداثة غير المكتملة والمشوهة والمضللة التي تصاحبها. إنه تمرد مشروع تماماً ضد نظام لا يقدم للشعوب المعنية أية مصلحة على الإطلاق. - إن الخطاب الإسلامي الذي يقدم كبديل للحداثة الرأسمالية -والتي تُضم إليها تجارب الحداثة الاشتراكية التاريخية أيضاً-، ذو طابع سياسي وليس ديني. أما وصفه بالأصولية كما يحدث غالباً، فلا ينطبق عليه بأي شكل، وهو، على أية حال، لا يستخدمه إلا على لسان بعض المثقفين الإسلاميين المعاصرين الذين يوجهون خطابهم الى الغرب بأكثر مما يوجهونه الى قومهم. والإسلام المقترح هنا معادٍ لجميع أشكال لاهوت التحرير، فالإسلام السياسي يدعو الى الخضوع لا التحرر. والمحاولة الوحيدة لقراءة الإسلام في اتجاه التحرر كانت تلك الخاصة بالمفكر الإسلامي السوداني، محمود طه. ولم تحاول أية حركة إسلامية، “لا راديكالية ولا “معتدلة”، أن تتبنى أفكار محمود طه الذي أعدمه نظام نميري في السودان بتهمة الردة. كذلك لم يدافع عنه أي من المثقفين الذين ينادون بالنهضة الإسلامية” أو الذين يعبرون عن الرغبة في التحاور مع هذه الحركات. والمبشرون “بالنهضة الإسلامية” لا يهتمون بإمور اللاهوت، وكل ما يبدون إهتمامهما به من الإسلام هو الشكل الاجتماعي والتقليدي للدين، الذي لا يخرج عن الممارسات الدقيقة والشكلية للشعائر. والإسلام كما يتحدثون عنه يعبر عن “جماعة ينتمي إليها الإنسان بالإرث كما لو كانت جماعة”، عرقية” وليس اعتقادا شخصياً يختاره المرء أو لا يختاره، يؤمن به أو لا يؤمن. فالأمر لا يتجاوز تأكيد “هوية “جماعية”، ولهذا السبب ينطبق تعبير الإسلام السياسي على هذه الحركات تماماً.
- لقد جرى اختراع الإسلام السياسي الحديث في الهند على يد المستشرقين لخدمة السلطة البريطانية، ثم تبناه وبشر به المودودي الباكستاني بكامله. وكان الهدف هو “إثبات أن المسلم المؤمن بالإسلام لا يستطيع العيش في دولة غير إسلامية – وبذلك كانوا يمهدون لتقسيم البلاد- لأن الإسلام لا يعترف بالفصل بين الدين والدولة حسب زعمهم. وهكذا تبنى أبو العلاء المودودي فكرة الحاكمية لله (ولاية الفقيه؟!”، رافضاً فكرة المواطن الذي يسن التشريعات لنفسه، وأن الدولة عليها أن تطبق القانون الساري للأبد “الشريعة”. والإسلام السياسي يرفض فكرة الحداثة المحرّرة، ويرفض مبدأ الديمقراطية ذاته -أي حق المجتمع في بناء مستقبله عن طريق حريته في سن التشريعات. أما مبدأ الشورى الذي يدعي الإسلام السياسي أنه الشكل الإسلامي للديمقراطية، فهو ليس كذلك، لأنه مقيد بتحريم الإبداع، حيث لا يقبل إلا بتفسير التقاليد “الاجتهاد”، فالشورى لا تتجاوز أياً من أشكال الاستشارة التي وجدت في مجتمعات ما قبل الحداثة، أي ما قبل الديمقراطية. ولا شك أن التفسير قد حقق في بعض الحالات تغييراً حقيقياً عندما كانت هناك ضرورات جديدة، ولكنه حسب تعريفه ذاته -رفض الانفصال عن الماضي- يضع الصراع الحديث من أجل التغيير الاجتماعي والديمقراطية في مأزق. ولذلك فالتشابه المزعوم بين الأحزاب الإسلامية -راديكالية كانت أم معتدلة حيث إنها جميعاً تلتزم بمعاداة الحداثة بحجة خصوصية الإسلام- والأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوربا ليس صحيحاً بالمرة، رغماً عن أن وسائل الاتصال والديبلوماسية الأمريكية تشير إليه كثيراً لإضفاء الشرعية على تأييدها المرتقب للأنظمة ” الإسلامية” في المستقبل. فالديمقراطية المسيحية قائمة في نطاق الحداثة، وهي تقبل الفكرة الأساسية للديمقراطية الخلاقة، وكذا جوهر فكرة العلمانية.
أما الإسلام السياسي فيرفض فكرة الحداثة، وهو يعلن ذلك حتى وإن كان لا يستطيع فهم مغزاها. وعلى ذلك فالإسلام المقترح لا يمكن وصفه بالحداثة، والحجج التي يقدمها المنادون ” بالحوار” لإثبات ذلك مبتذلة لأقصى درجة، وتبدأ من استخدام دعاة الإسلام لأشرطة الكاسيت لترويج الدعوة، وحتى لقيام الدعاة بتجنيد الأتباع من بين الفئات “المتعلمة” كالمهندسين والأطباء مثلاً! وعلى أية حال، فخطاب هذه الحركات لا يعرف إلا الإسلام الوهابي الذي يرفض كل ما أنتجه التفاعل بين الإسلام التاريخي وبين الفلسفة الإغريقية في زمانه، كما يكتفي بتكرار الكتابات التي لا طعم لها لابن تيمية، الذي هو أكثر الفقهاء رجعية في العصر الوسيط. وعلى الرغم من ادعاء بعض الدعاة بأن هذه التفسيرات هي “عودة الى الإسلام في عهد الرسول”، فإنها في الحقيقة عودة الى الأفكار السائدة منذ 600 عام، أي الى الأفكار السائدة في مجتمع تجمد تطوره لعدة قرون. - والإسلام السياسي المعاصر ليس نتيجة لرد الفعل لإساءات العلمانية كما يدعي البعض كثيراً مع الأسف. ذلك أن أياً من المجتمعات الإسلامية العصرية – باستثناء الاتحاد السوفياتي السابق- لم يكن في وقت من الأوقات علمانياً بشكل حقيقي، ودع عنك التعرض لهجمات سلطة “ملحدة” عدوانية بأي شكل من الأشكال. فقد اكتفت الدول شبه الحديثة في تركيا الكمالية، ومصر الناصرية، وسوريا والعراق البعثيين، بتدجين رجال الدين “كما حدث كثيراً من قبل”، وذلك بأن تفرض عليهم خطاباً هدفه الوحيد إضفاء الشرعية على اختياراتها السياسية. أما نشر فكرة العلمانية فلم توجد إلا لدى بعض الأوساط المثقفة المعارضة، ولم يكن لها تأثير يذكر على الدولة، بل إن الدولة قد تراجعت في بعض الأحيان في هذا المجال، خدمة لمشروعها الوطني، كما حدث من تطور مزعج حتى في عهد جمال عبدالناصر نفسه بالنسبة لموقف الوفد بعد ثورة عام 1919. ولعل التفسير الواضح لهذا التراجع هو أن الأنظمة المعنية، إذ رفضت الديمقراطية، فضلت عليها تجانس “المجتمع”، الأمر الذي تظهر خطورته حتى بالنسبة لتراجع الديمقراطية في الغرب المعاصر ذاته. ويهدف الإسلام السياسي الى إقامة أنظمة دينية رجعية صريحة، مرتبطة بسلطات من طرا “المماليك”، أي سلطة تلك الطبقة العسكرية الحاكمة قبل قرنين من الزمان. ومن يراقب عن كثب الأنظمة المتدهورة التالية لمرحلة الفورة الوطنية، والتي تضع نفسها فوق أي قانون “بادعاء أنها لا تعترف إلا بالشريعة”. وتستولي على كل مكاسب الحياة الاقتصادية، وتقبل، باسم “الواقعية”، أن تندمج في وضع متدنٍ، في العولمة الرأسمالية لعالم اليوم، لا يمكن إلا أن يربط بينها وبين تلك الأنظمة المملوكية. وينطبق نفس التقييم على نظيرتها من الأنظمة المدّعى بإسلاميتها والتي ظهرت مؤخراً.
- لا يوجد اختلاف جوهري بين التيارات المسماة “بالراديكالية” للإسلام السياسي، وبين تلك التي تفضل تسمية نفسها “بالمعتدلة” فمشروع كل من النوعين متطابق. وحتى إيران لا تشذ عن القاعدة العامة، بالرغم من الارتباك الذي حدث عند تقييم نجاحها، الذي تحقق بسبب الالتقاء بين تقدم الحركة الإسلامية، والصراع الناشب ضد دكتاتورية الشاه المتخلفة اجتماعياً والمرتبطة سياسياً بالأمريكان. ففي المرحلة الأولى، عوضت المواقف المعادية للاستعمار للسلطة الدينية من غلواء تصرفاتها الجامحة، وهذا الموقف المعادي للاستعمار هو الذي منح هذه السلطة شرعيتها، كما كانت له أصداء قوية من التأييد خارج إيران. ولكن النظام لم يلبث أن ظهر عجزه عن قبول التحدي المتمثل في اقتراح تنمية اقتصادية واجتماعية مجدّدة.
- فدكتاتورية العمائم “رجال الدين” التي حلت محل دكتاتورية الكابات (العسكريين والتكنوقراط)، كما يقال في إيران، قد أنتجت تدهوراً خطيراً في الأجهزة الاقتصادية للبلاد. وإيران التي كانت تهدف أن تصبح مثل “كوريا”، قد انتهى بها الأمر أن تنضم الى “العالم الرابع”. وتجاهل الجناح المتشدد في الحكم للمشاكل الاجتماعية التي تواجه الطبقات الشعبية، هو الذي أدى الى نجاح من يسمون أنفسهم بالمعتدلين، لأنهم أصحاب مشروع يمكن أن يخفف ولا شك، من تشدد الديكتاتورية الدينية، ولكن دون التخلي عن مبدأها الاساسي، وهو ولاية الفقيه الوارد في الدستور. يجد نظام الإسلام السياسي في إيران نفسه في مأزق، ويجب أن يصل الصراع السياسي والاجتماعي الذي يقوم به الشعب الإيراني اليوم بشكل صريح، الى رفض مبدأ ولاية الفقيه الذي يضع جماعة رجال الدين فوق كل مؤسسات المجتمع السياسية المدنية، وهذا هو شرط نجاح هذا الصراع. إن الإسلام السياسي هو مجرد تحوير للوضع التابع للرأسمالية الكومبرادورية، ولعل شكله “المعتدل” يمثل الخطر الأكبر بالنسبة للشعوب المعنية. ويعمل التأييد الواضح لدبلوماسية ثالوث الدول الكبرى بقيادة الولايات المتحدة لهذا “الحل” للمشكلة، في فرض النظام الليبرالي للعولمة الذي يعمل لمصلحة رأس المال المسير.
بقلم سمير أمير