العمالة الأجنبية المذنبة والضحية!

خلال أكثر من ستة وأربعين عامًا (1974 – 2020) منذ برز مصطلح الطفرة النفطية في الساحة الخليجية وعلى إثر ارتفاع تلك الأسعار الصاروخية سيحدث انقلاب عميق في التنمية وكأنما الأنظمة حديثة الاستقلال تسابق الزمن الاستعماري لعلها تخرج من قميص الكولونيالية ونسبها وسلالاتها الاستعمارية البغيضة. 

ونتيجة لتلك الطفرة واتساع مساحة البنية التنموية وظهور وولادة جيل جديد من السكان هم جيل ما بعد السبعينات برزت ايضًا مقولة «نعمة النفط!» لتقف مقابلها نظرة مجتمعية متشائمة عكسية رديفة هي مقولة «نقمة النفط!». بين عجلتي النعمة والنقمة، كانت طاحونة الهوية السكانية تتخثر تحت السطح، وبين الفينة والفينة او بين كل عقد من الزمن تبدو العمالة الأجنبية شبحًا متضخمًا ينمو كالأخطبوط لدرجة بات كالشبح في المدن الخليجية الجديدة اللامعة حتى تمدد للريف والصحاري كالشياطين المحبوسة التي هربت من سياجاتها. 

دون شك كنت شاهدًا على تلك الحقبة بكل تعرجاتها خاصة مع تفجر البدايات التي خلقت قيما جديدة لاهثة نحو رغبة تحسين الدخل، فيما كانت شرائح أخرى تقفز من مواقع طبقية الى أخرى ويتفكك المجتمع نتيجة لاختلالات سوق العمل وتنسلخ عن واقعها الاجتماعي والفكري تدريجيًا الى مواقع طبقية جديدة مما أربك قناعاتها وتجاربها. وبدت السيولة النقدية تغرق المدينة والأحلام والرغبات، ويكتشف البحريني مدن سياحية جديدة بعد بومبي وبيروت والقاهرة وشيراز، فيما راحت الأحياء الشعبية التاريخية تستبدل جلدتها وشرايينها ونبضها، فكدنا نتعجب بسخرية ماذا تعنى كلمة «بوتيك!» وعبارة «نوفوتيه!» فتبدلت العناوين الشخصية من دكان محمد وبو جعفر وبو عبد الله الى أسماء خرافية كمحلات الشانزليزيه في أزقة ضيقة من المحرق. 

بدأ الزحف من المدينة الى الريف عمرانيًا وسكانيًا وبدلاً مما يحدث في المدن العربية الكبرى والعالم النامي حالة الهجرة من الريف للمدينة، وتنبثق عفاريت المدن الصفيحية التي طوقت العواصم التاريخية الجميلة بهندستها وتراثها وأحيائها. 

كانت العائلة الممتدة في الأحياء الشعبية التقليدية تحمل في أحشائها بذور فنائها في دول الخليج، وتترك الناس فيها بيوتها القديمة للعمالة الأجنبية المنتفخة بنكهة البهارات والرطانات المتنوعة، مرتحلة طوابير السكان نحو ريف بدا في الثمانينات هادئًا إلا من هوس ارتفاع العقارات بجنون. كما أن الزحف نحو تعمير الصحراء المجاورة للمدن القديمة التاريخية ظاهرة محسوسة حتى تلاصقت عملية الأعمار السريع بين مناطق عالم تقليدي يتراجع في خطاب الجدات والأجداد، فيما راح الأطفال يتغنون بثقافتهم الالكترونية الأكثر حداثة في اسواق الخليج الاستهلاكية ويتفاخرون كأبناء طبقة وسطى جديدة بالتكلم بلغات أجنبية غريبة بعد أن تم إهمال لغة الأم كجزءٍ من حالة التظاهر والافتخار بثقافة الآخر. 

بعد عقود قليلة توسعت المدن الحديثة في أقطار الخليج يجاورها بنسق نقيض لذلك التحديث والثراء عمالة أجنبية في حالة تضخم وترهل مستمر فيما نواقيس الخطر بدأت تدق وتحذر في حقبة التسعينات وبرزت بشكل صارخ في أقطار خليجية عن غيرها وبدت معالمها مرعبة مع غزو الكويت كمؤشرٍ فاضحٍ لتركيبة سكانية في حالة هلع مهني فيما تميز الهلع الديمغرافي في الامارات أكثر اقترابًا وتماسًا مع كابوس طمس «الهوية الوطنية». وبدلاً من أن تتعظ او تتوقف أقطار اخرى من الحالة الكابوسية في دول الجيران نجدها تختل سكانيًا وتتحول النسب الى أرقام مروعة يحاول فيها مجلس التعاون التفتيش بفتور عن حلول استراتيجية ناجعة منذ أن مر على تأسيسه 39 عامًا، ولكننا نشهد تدفق موجات الهجرة الواسعة المستمرة من العمالة الاجنبية، والتي لا تدخل البلاد في الظلام ولا قفزًا من فوق السور وإنما يتم إحضارهم بعقود مهن شرعية، بل ويتم استغلالهم بصورة بشعة الى حد تم فيها توصيف تلك العمالة الآسيوية الجديدة «بالعبيد الجدد»… الخ، من التسميات التي باتت سمة من سمات تلك العمالة التي كلما ساءت نمط حياتها ومعيشتها فبالضرورة في النهاية تتحول الى «قنبلة موقوتة !» تندفع كما تندفع جموع ثورة الجياع في التاريخ، وستكون القوة الخفية لتحريضهم خيوط سميكة قادمة من منظمات خفية لها مصلحة في بقاء سوق عمل متفسخ بالسوق السوداء والانفلات الأمني والسلوكيات الإجرامية الفاضحة. 

فهل نغض الطرف عن الاسباب ونتشبث بالنتيجة كما افرزتها ظروف كورونا ام العكس علينا معالجة الظاهرة /‏ القنبلة من كل جوانبها فالعمالة الاجنبية ليست وليدة اللحظة، فهي أولاً وأخيرا الضحية المباشرة لنمط من أنماط الانتاج في سوق رأس المال الحديث المعولم.

المصدر، صحيفة الأيام البحرينية