لن نختلف كثيرًا على عبارة العمالة الوافدة او العمالة الأجنبية، حيث لا أجد الفروقات الجوهرية من حيث الدلالة الاقتصادية، بقدر ما هو خطاب دبلوماسي ملطف وفيها درجة من المراعاة للمشاعر والإخوة، ولكنها في ميدان العمل الفعلي تتعرض تلك العمالة لذات الاستغلال البشع ولشروط العمل وظروفه ذاتها دون رحمة، إذ من المؤسف أن نجد في القرن الواحد والعشرين عبودية العمالة التي تعمل ما بين 12 إلى 14 ساعة يوميًا.
لا يوجد بلد في العالم في يومنا لا يوجد به عمالة وافدة إليه من حدوده المجاورة أو حدوده النائية، فالشرط الأساسي ذيوع أخبار حالمة مثيرة عن هذا البلد أو ذاك تحول إلى قوة مغناطيسية جاذبة وأن الوصول إلى تلك الجنة حلم في اليقظة لكل إنسان يسعى لبناء حياة شخصية أو عائلية واعدة، ولن تكون إلا تلك البلدان النفطية أو الدول الأوروبية الغنية المرفهة، فعلى الجميع ركوب المخاطر وعبور البحر أو البحث عن وكالة تتاجر بحياته لتنقله سرًا إلى حدود تلك البلدان.
موضوعنا في هذه المقالة حول العمالة الأجنبية في أقطار الخليج وتحديدًا في بلدنا البحرين. عرفت الجزيرة في مرحلة ما قبل النفط بصيد اللؤلؤ كمهنة موسمية شاقة فاستقبلت العشرات من دول الجوار وبر فارس وجزرها والعكس كذلك، فكان الرجال يرحلون، حيث يوجد الرزق فينجزون مهمات المهنة الموسمية ويعودون إلى مسقط رؤوسهم. هذه العمالة الوافدة يومها لم تكن تشكل رقمًا كبيرًا بالنسبة للسكان، كما أنها لم تنصهر أو تشكل رقمًا كبيرًا متداخلاً اجتماعيًا مع تركيبة المجتمع المحلي إلا بصورة طفيفة لا يمكنها أن تقلب هوية المجتمع وأسسه الحياتية، كما أنها لم تكن ظاهرة مؤثرة سلبيًا على طبيعة العلاقات الإنسانية بين الوافدين للغوص وسكان البحرين أنفسهم. كان لاكتشاف النفط في الثلاثينات من القرن المنصرم دوره الكبير في تدمير مهنة الغوص وانكماشها وصعود قوة إنتاجية جديدة وسلعة مهمة عالميًا من حيث الطلب عليها كعنصر فعَّال في الطاقة.
ففتحت الشركات النفطية والوجود الاستعماري الأبواب للأيدي العاملة الرخيصة في المنطقة وتوالت الأخبار عن حاجة تلك الشركات للعمالة، كما أن النشاط الاقتصادي العام في كل مناحي الحياة سيتطلب مهنًا متنوعة كثيرة لا تتوافر بسهولة كلها في البلد، ونتيجة لتلبية تلك الحاجات المهنية الملحة تدفقت العمالة من دول الجوار بكثافة قياسًا لنسبة السكان، ومع ذلك لم تنخرط وتتفاعل تلك العمالة الأجنبية بسهولة مع سكان الجزيرة رغم السلام الاجتماعي السائد فيها، فلم تكن هناك أنماط من مجتمعات الغيتو ولا معسكرات ومستوطنات معزولة للعمالة الوافدة كما هي حاليًا بعد أن تحولت إلى أعداد غفيرة مؤثرة في نسيج المجتمع ومفاصله الحياتية. بين مرحلة الثلاثينات والأربعينات ومرحلة الثمانينات والتسعينات حتى لحظة وباء كورونا الفاضح والمقيت، تكشفت تلك المساحة الشاسعة في عملية النسبة والتناسب ما بين القوى العاملة المحلية والقوى العاملة الأجنبية، حيث ارتفعت على الدوام ودون توقف زيادة تلك القوى الأجنبية التي شكلت مناصفة مع السكان أو اكثر بينما كانت في السابق لم تتجاوز أكثر من 5 إلى 10% من نسبة السكان في أغلب الحالات هذا إذا لم تكن أقل، بينما في العقدين الأخيرين من الألفية الثالثة شكلت تلك العمالة الوافدة خاصة في مجالات البناء والإنشاء والخدمات أكثر من 90% من حجم القوى العاملة بعد أن تلاشت داخل القوى العاملة المحلية مهن كثيرة عرفتها البحرين في الثلاثينات والأربعينات حتى مرحلة الاستقلال والطفرة النفطية، التي أحدثت انقلابًا عميقًا في بنية المجتمع ونسيجه الاجتماعي الجديد. باتت اليد العاملة الوافدة بمهنها المتنوعة وقيمها الغريبة تجدها تتحرك أمامك بكثافة وتربك سوق العمل وتكرس قيم وظواهر جديدة كفيلة باكتشاف واقع مأساوي، وجديرة بالدراسات الاجتماعية والاقتصادية الغنية، بحيث نكتشف أمامنا كوارث تهدد الأمن الاجتماعي ونسيج الهوية لمكونات المجتمع التقليدي لمجتمع ما قبل النفط.
تغلغلت تلك العمالة الوافدة لكثافتها في النسيج الاجتماعي، واستوطنت الأحياء الشعبية بين ضلوع السكان لتطردهم بهدوء مسالم مع الوقت لمناطق أخرى وتنفرد هي بتلك المناطق، حتى يكاد النظر يشك في مشهد مؤلم للهويات العربية الممزقة، المنتهكة، المضطربة والحائرة، ماذا تفعل الآن؟ وماذا ستفعل مستقبلاً مع هذه الورطة؟ فلا تجد إجابة شافية!
المصدر، صحيفة الأيام البحرينية