حالة المجتمع كانت ولا زالت تدور حول محورين من الصراع وهما الطائفية والقبلية والديمقراطية حيث طغيان الطائفية والقبلية على التركيبة السكانية، اهمية هذا تمنحنا فرصة للتعرف بأليات تكيف الاشكال التقليدية من التنظيم والانتماء والتفكير المتمثلة في الطائفية والقبلية مع مطالب الديمقراطية. وكان هناك تاريخ طويل من هذا الصراع منذ الخمسينات والذي اقترن بحراك تغييري للمعارضة ينسب لغلبة الايديولوجيات القومية والاشتراكية الراديكالية على القوى الطائفية – القبلية وهي المصدر الذي كان يعتمد عليه الحكم في ادامة الواقع القائم والمحافظة عليه حيث برزت الهيئة التنفيذية العليا كتنظيم شعبي في ١٩٥٤ كرد فعل على الاضطرابات الطائفية بين الشيعة والسنة، والتي ارتكزت في عملها منذ البداية على اساس من العمل الوطني المشترك. وستكون أكبر خسارة لها هي عودة القبلية والطائفية بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧. وبعد ذلك توالت عملية الترتيبات الطائفية القبلية كلما حدث تبدل في الحياة السياسية وتم طرح مشروع يدعو الى الديمقراطية. وهذا يبين عملية تكيف هذه القبلية والطائفية مع التحولات التي كانت تستجد كل عشر سنوات. وهذا يبين كيف ان النظم التقليدية القبلية والطائفية تتكيف مع الاوضاع المستجدة، ولا تختفي، وانما تتطور عبر دورات تاريخية وهذا التكيف لا يتبع مخططاً ثابتاً، وانما عبر عمليه احتماليه تتشكل اثناء ديناميات التغيير الاجتماعي وخلالها. وهنا يجب ان نفهم عملية تطور النظم القبلية والطائفية والتخلي عن افتراض ان القبلية والطائفية هي حالة فوضى فقط، لأنها تصب في المجرى العام لأليات الضبط والسيطرة، الذي هو اساس القوة الاجتماعية وممارسة القوة. فعندما تقدم الحكومة تنازلات متمثلة في قبول حكم دستوري ديمقراطي فكيف إذاً تحاول هذه النخبة الحاكمة ان تسيطر على العملية السياسية وتستعيد السلطة التي تنازلت عنها إذا كانت هذه النخب الحاكمة هي، في حالة فوضى كما يدعي الكثير ممن يعارضها؟
اذن غير صحيح ان القبلية والطائفية تعيش حالة من الفوضى كما كان يسوق له بعض المثقفين او السياسيين. وانهم كمبدأ تنظيمي هم حصيلة المجتمع البدوي او الزراعي؟ فالقبلية السياسية – الطائفية تتكيف بنجاح مع الفئات الثلاث للمدن والقرى والمناطق الداخلية والجهوية. والقبلية السياسية – الطائفية كنظام ثقافي تنزع في استمرار الى تعديل نفسها تبعاً للظروف المتغيرة. حيث عرفت مؤسسات القبلية – الطائفية تغيرات استجابة لضرورات انشاء جهاز دولة حديث حيث تخلت النخب الحاكمة عن لباسها التقليدي ، وتم استبداله بألة دولة تحكمية حديثة ، ذات كفاءة نظراً لتحول الاقتصاد الى دولة ريعية واسفرت هذه التحولات عن نشوء شبكة معقدة من العلاقات الاجتماعية الاقتصادية التي بقيت محكومة بالترتيبات القبلية – الطائفية ، انما بموازاة نظام من التدرج الطبقي الاجتماعي يتلائم مع ثقافة استهلاكية حديثة ، تتسم بتوسع هائل في قطاع الخدمات وعبر اقتصاد الخدمات في العقار والمال والسياحة الاقتصاد الثالث ، وبنمو ملحوظ لمهن الطبقة المتوسطة . كما أن هناك ترتيب لكل شريحة في هذا النظام القبلي- الطائفي السياسي، تتدرج كذلك الى طبقات على اساس الولاءات القبلية – الطائفية. فالأثرياء والاغنياء يتمتعون بحصص غير متساوية من السلطة، والثراء والنفوذ بفضل تأييد النخب الحاكمة، وهم يحتلون مواقع رسمية نظير اعتراف الدولة بمواقعهم بصفتهم يمثلون (اتباعهم) عبر سياسية الزبانة السياسية (المعزب والزبون) مما شكل ما يطلق عليه خلدون النقيب (التضامنية (شبكة) القبلية – الطائفية). ان جهاز الدولة كونه يتبع النخب الحاكمة، يوجه جميع المنافع والميزات عبر شبكة وشبكات التمثيل التضامني هذه، على اساس المكانة الاجتماعية. علاوة على ان هذه الشبكات (التضامنية) تلعب دوراً اضافياً هاماً في تلطيف تأثيرات سياسات السلطة على بقية السكان اي سلطة الدولة الجماعي، بتامين شكل من الوقاية او الية من التخفيف والدعم الاجتماعي لمن يعاني من هذه السياسات. غير ان الوظيفة الاولية لشبكة العلاقات التضامنية، هي تقنية السيطرة او الرقابة الاجتماعية المصممة (لصنع الرضى) وتامين خضوع السكان. وقد صممت الرمزية الدينية بعناية لإخفاء سلطة الدولة المنظمة حيث المراد منه هو عدم التحديد الرسمي لمسؤولية الدولة العامة. وهنا كما اعتمدت النخب الحاكمة من قبل على مجلس شورى والان على مجلس شورى ومجلس نواب باعتبارهما مساوياً للديمقراطية. وهنا تحتل الطاعة التامة او الطاعة المكيفة للقادة او اعضاء مجلس الشورى او البرلمان وكل العاملين مكان طاعة اولي الامر التقليديين، وتخترق مؤسسات الدولة (العامة) ما يسمي بالمجتمع المدني وهنا تبطل في الواقع حقوق الافراد وحرياتهم، ويلعب هنا الاعلام دوراً كبيراً في ذلك وحتى العالم الافتراضي التقني يستخدم في هذه السياسة. أصبح هذا النسيج الدقيق المتشابك لعلاقات (المعزب / الزبون) (السيد / التابع) القبلية – الطائفية تلعب دوراً مهماً في الحد من الاصوات المخالفة في الراي واخفاء التفاوت الحاد الطبقي او ما يسمي بترميم الصدوع الطبقية، وذلك عبر استخدام الولاءات القبلية – الطائفية.
.
الظاهرة التي لا يخطئها النظر، منذ خريف (٢٠١١) هو الانقسام الحاد الذي تبلور منذ ان تم استقطاب المجتمع بجمعياته السياسية ضمن ما عرف بإتلاف ١٤ فبراير وتشكل الحراك الذي أحدث استقطابا حاداً عندما لحقت الجمعيات اليسارية بهذا الحراك والذي بلور ما يسمى بالموالاة والمعارضة، اي انقسم البحرينيين الي قسمين متقابلين، السلطة ومن يوالونها من مختلف الفئات الاجتماعية نساء ورجال، و (المعارضة) ومن يوالونها من مختلف الفئات الاجتماعية نساء ورجال. تتدرج اشكال الموالاة والمعارضة من المشاركة في العنف الذي مورس واعمال الثأر والانتقام، وتبريرها وتسويغها. والى السجالات الكلامية والخصومات الشخصية ، وتبادل التهم ، الى الانحياز الصامت خوفاً او حرجاً او اتقاءً لدى جزء من البحرينيين والذي تعززت فيه القبلية -الطائفية ليتم تفعيلها كترتيب جديد سياسي ولخلق نزاع سياسي طائفي بين (السنة والشيعة) لإعادة دورة جديدة من الترتيبات القبلية – الطائفية بعد ان حدث (الشرخ الطائفي) في المجتمع ، لذلك فأن انقساماً بهذا العمق في المشروع الاصلاحي والذي سواء كان بوعي او غير وعي وضع الارضية لكي تتبلور على اساسه (القبلية – الطائفية والذي سمح لقوى الاسلام السياسي (الشيعية والسنية) و لجمعياتها السياسة ان تجر المشروع الى هذا التخندق والذي شارك فيه أيضاً نخب متشددة في الحكم والنتيجة تشكل مجتمعين متخارجين تخارجاً مؤسساً في تخارج المجتمع و (الدولة) من جهة ، وتخارج الحرية والسلطة من جهة اخرى، مما عمق من عدم الاندماج الوطني علي اساس المواطنة ، والانتقال من الرعوية الى المواطنة في النتيجة. واللافت للنظر هنا في هذه الظاهرة استقطاب المثقفين المتعلمين واليساريين والنساء المتعلمات والذين كانوا يقفون مع (حقوق المرأة) على محوري الموالاة والمعارضة. ومن تداعيات هذه الكارثة ٢٠١١ تبلور ما يسمى المجتمع الحكومي وكلمة الحكومة و (الحكومي)، تتعدى دلالتها المعنى التقليدي (الوزارة)، فتدل على شكل خاص من اشكال (الدولة) او شكل خاص من اشكال الحكم، مختلف عن انموذج الدولة الحديثة، ونظام خاص مختلف عن النظم السياسية المعاصرة، على الرغم من وجود الشبه التي توحي بها المؤسسات التشريعية والمجالس البلدية والقضائية، والمنظمات الشعبية بصفتها ادوات السلطة لاختراق بنى المجتمع والسيطرة على مختلف مجالات النشاط الاجتماعي. فالنظام من هذه الزاوية، يبدي وجوهاً مختلفة ومتناقضة: ديمقراطية ليبرالية، وديمقراطية (تسلطية) محدثة، ولكن لا يستند الى اي منها؟ ولم يكن ممكناً ان يكون النظام على هذا النحو من التركيب لو لم يكن المجتمع كذلك، فالنظام، في نهاية المطاف، هو طريقة الافراد والجماعات في تنظيم حياتهم العامة والنوعية، ومثل ما تحدثنا سابقاً فإن القبلية السياسية – الطائفية لها القدرة على التكيف مع الوقائع والمستجدات، وعلى اعادة انتاج نفسها، ما لم تكن الوقائع كافية لتعديله.
هل يكفي ان يتم وصف المجتمع البحريني من خلال ان هناك تحسن في الخدمات الصحية والتعليمية والسكن او المشاركة السياسية الخ؟ من دون البحث في القيمة التي اضافها هذا التحسن والتطور الى راس المال المجتمعي والمعرفي والثقافي، وكيف انعكست على حالة المواطن البحريني، من حيث تمكين افراد الشعب، وبتمتعهم بالحقوق المدنية والسياسية، ومدى العدالة في التوزيع العادل للثروة والسلطة والمعرفة، ومدى التغيير في العلاقات الاجتماعية والسياسية، ومدى اسهام هذا التحسن في حل المشكلات الاجتماعية والسياسية المزمنة، كالحاجز الاجتماعي، والتوترات التي تولدها العلاقات المتبادلة بين الطوائف والتي وصلت لحد (الشرخ الطائفي)، اي مدى اسهامها في الاندماج الاجتماعي، وانتاج فضاء عام مشترك بين جميع المواطنيين وفئاتهم على قدم المساواة، واستيلاد المواطنة الحرة والمواطن الحر؟ كان هناك ارادتين او ظاهرتين مختلفتان، الاولى تعبر عن ارادة الحرية، والثانية تعبر عن ارادة السلطة والصراع عليها، فهذه الظاهرتين المستقلتين والمتعلقتين، كانت تعتمل تحت سطح الواقع فالإشكالية هنا وفي أعمق مستوياتها، هي اشكالية العلاقة بين ارادة الحرية وارادة السلطة. الفرق بين ارادة الحرية وارادة السلطة هو الفارق الذي كان يشكل جوهر الحراك السياسي في المشروع الاصلاحي، وحراك ٢٠١١، والذي عزز الانقسام العمودي في المجتمع على اساس طائفي تطلباً للسلطة، ذلك ان ارادة الحرية اججت ارادة السلطة (لدى المعارضة) فأختلط مفهوم الدولة بمفهوم السلطة او الحكومة (عبر المطالبة بالمحاصصة الطائفية)، ومفهوم السيادة بمفهوم السياسة، وأن ارادة السلطة وارادة القوة اصبحت هي ما يميز طبيعة الحراك السياسي منذ ان تبلور المشروع الاصلاحي وظلت بعدها ارادة السلطة وارادة القوة عند كل الفاعلين السياسيين تتكاملان وتتبادلان المواقع، وتتغلبان على ارادة الحرية، وسيكون لاتحادهما (ارادة السلطة وارادة القوة) اثر عميق في تحديد معنى السياسة، ومعني السلطة واستراتيجيات واليات عملها، وقد يفسر الوضع الراهن اليوم. ذلك انه من طبيعة السلطة انها تميل، دوماً الى التوسع والشمول على الفضاء الاجتماعي برمته، ويرجع ذلك الى تداعيات كارثة الدوار والتي كانت مدمرة لإشكال الاحتجاج وتنوعها والتي اتخذت اشكال اعتصامات ومسيرات واضرابات سلمية ومسئولة، وهذا قبل كارثة الدوار. هنا تعززت ميول الناس وطموحها الى الارتقاء الاجتماعي في ظل التردي الحاد في وضعها المعيشي وذلك أيضاً راجع الي العزوف واللامبالاة المعززين بالإحباط العام، علاوة على الخوف. وهذه كلها تعبر عن ضعف او فتور في ارادة الحرية التي استنفذت في الحراك السياسي في ٢٠١١ عبر الشعارات المهلكة والمركزي منها وهو (الشعب يريد اسقاط النظام)، وهو ضعف تمتد جذوره لنسيان الفرد الطابع الوطني للحراك السياسي والتي تعني ذوبان المواطنين في البنى والتشكيلات ما قبل الوطنية (ومنها القبلية – الطائفية).