هل يودعها في الوطن، الشعب، الطائفة، المذهب، المرجع، الرموز، الزعماء، الخ؟ ان منحني الخيار في كل هذه الاحتمالات، قد استوىعلى خيارين الاول عند التيار الشعبوي المتسم بروح المغامرة الثورية الي اما ان يذيب مشاعره في مفهوم (الشعب) وهو من اجل ذلك الهدف سيفني حياته ؟!
وهنا يتشارك معه التيار الاخر الممثل في الاتجاه المتطرف الطائفي الشعبوي المغامر مع تيار الاسلام السياسي الممثل في الجمعيات الطائفية السياسية. فهم يقعون تحت هذه المعادلة الجهنمية. فهم كمواطنين مستعدون حتى لتقديم حياتهم من اجل الاخرين. وكأفراد خاصين، (طائفيين) هم محكومون بأنانيتهم والتي تتمحور حول ذواتهم. لأنهم جعلوا (الشعب) (الطائفة) (المذهب) تجسيدا لمشاعرهم الاجتماعية. فهم أصبحوا يعبدونها هي ورموزها ومراجعها. وأصبحوا يضفون احساسهم للسلطة بحكمة وشجاعة زعمائهم ورموزهم ومرجعيتهم والاعتكاف والتهجد (الاعتصام) امام بيت المرجع الروحي المقدس يمثل قمة هذه العبودية لهذا المقدس البشري.
ولكن لماذا حدث هذا التحول او الانعطافة (العظيمة) من (الوطنية -المدنية) الي (الطائفية، المذهبية) او الي (الوثنية) (عبادة الفرد المرجع) حيث كانت الصيغة هي بحث المواطن او الفرد عن (وحدة) يعود من خلالها الي ان يخضع نفسه الي بشر اخرين؟ ان كل هذا يكمن في (الاغتراب) باعتباره مرض الانسان النفسي في هذه المرحلة. وهنا في هذه الانعطاف بدل ان يأخذ الاغتراب كمفهوم للاغتراب أخذ مفهوم (الوثني)؟ ماذا يحدث في هذه الوثنية؟ ان ما يحدث هنا بالضبط ما سماه فرويد (تحويلا–transference)ان التحويل هو تجل (للوثنية) حيث يحول المرء نشاطاته الخاصة او كل تجاربه -من قدرته على الحب، او قدرته على التفكير الي موضوع خارج نفسه. قد يكون الموضوع شخصا او شيئا مصنوعا من الحجر. وحالما ينجز المواطن -الفرد هذه الصِّلة التحويلية، يدخل في علاقة مع ذاته فقط بخضوعه الي الموضوع او الشخص (المرجع) الذي نقل اليه كل وظائفه الانسانية. وهكذا ان تحب (بطريقة وثنية، مغتربة) يعني: انا أحب فقط عندما اخضع نفسي الي (المقدس -المرجع) الذي حولت اليه كل مقدرتي على الحب. هذه هي الحالة مع (القوة التي ضخت في هذا المرجع) والتي من خلالها يصبح (المقدس -المرجع) أكثر قوة -اي بقدر ما (احول اليه) -بقدر ما أصبح فقيرا بائسا ويزداد اعتمادي عليه، بما أني و (الطائفة) (المذهب) سنضيع عندما نفقد الشيء الذي (حولت) اليه كل ما املك. ظاهرة التحويل بحد ذاتها، حيث يبحث الشخص غير الناضج غير المستقل غير الحر عن (صنم) فان وجد صنما -شخصا او شيئا -يستطيع ان يعبده طيلة حياته عندئذ لن يضطر الي الاحباط او الياس؟
تحتل الطائفية المذهبية العالم الداخلي للفرد، في المجتمع المنقسم على نفسه طائفيا ومن مظاهرها طاعة المرجع والانصياع لفتاويه، والدعاء للمرجع من على منابر المساجد والمواتم وتسكنه المظلومية ذات الطابع التعبوي والتجييش وتنهض دليلا على توتر المذهبيات المغلوبة. وتستخدم هنا (التمييز) على اساس طائفي. وتقف مع التسلط والاستبداد إذا كان في صف طائفتها. وتقوم على كراهية الاخر المختلف، والتنكر لإنسانيته واستباحة حقوقه والعراق هنا أبرز مثال. وتعيد انتاج الطائفية والمذهبية والتسلط والاستبداد، ما يجعل من الطائفية المذهبية رقابية وعقابية على حياة الفرد (المواطن) الداخلية وكابوسا مسلطا على عنقه وقلبه. وتأخذ شكل (عصبية) انتماء وولاء، لا تشترط الإيمان والتقوى، ولا تعبا بالوجدان والضمير. قوام هذا الموقف مطالبة او مدافعة عن حقوق طائفية مذهبية، وجهاد في سبيل ما تضعه الطائفة لنفسها من أهداف وغايات طائفية مذهبية. المواطن او الفرد (متغرب) عن وطنه ووطنيته فقد أصبح ذرة في الطائفة يرقص على أنغام إرادة ورؤية المرجع. فلا دور للمواطن او الفرد في تخطيط حياته وعمله ولا يتواصل مع بقية أفراد المجتمع الا من خلال طائفته. اما المرجع والذي يكون من جهة اخرى، على تواصل مع كامل الطائفة هدفه هو التوظيف المربح للرأس المال الطائفي والطائفية بالنسبة له هي تجسيد لهذا الرأسمال الطائفي. لقد أصبح المرجع يتعامل مع أفراد الطائفة مثل (الأشياء) والارقام، كالمواضيع لنشاطه وشهرته ويسمي انغماسه في هذا الدور (اهتماما بالمذهب والطائفة) وبشعائرها وطقوسها الدينية
ولكن ما هو جوهر هذه العلاقة مشاعر المواطن او الفرد والمكان الذي يودع فيه مشاعره؟ انه يأخذ شكل او علاقة بين (المرجع) والفرد (المواطن) التابع والمتبوع وتسمى هذه العلاقة ب (الرعوية)، وهي تتضمن جميع علاقات السلطة الاجتماعية والسياسية وسلطة الفقه والولي الفقيه. وعلى هذا الأساس تنبني الخصائص الاجتماعية والسياسية والثقافية والأخلاقية للمجتمع المنقسم على نفسه طائفيا. بتقاليده الفكرية والمرجعيات المذهبية الطائفية والخلفيات التي تحكم مواقف (المواطنيين) او الافراد الواعية والغير واعية من السلطة التي يمارسها او التي يتمتع بها (المرجع) والذي تحف به طائفة من المفاهيم (أية الله، سماحة الشيخ، الخ) هذه المفاهيم تبدو ضرورية لتحليل علاقة (المرجع) بالمواطن، الفرد، وعلاقة (المرجع) بالمجتمع. من أهمها الاجماع على كونه يمثل المرجعية للطائفة وهو الذي يصدر الفتاوي عبر الامر والنهي، والإظهار والتمكين، والاستخلاف والوعد، والشورى والعدل والطائفة والمذهب والدين وشعائره وفئة الملالي والعامة من الطائفة. على نحو تتجلي جميعها في المأثور المذهبي الطائفي والذي يستغل الدين والذي يؤسس لخطاب سياسي وخطاب فقهي، وهنا يتجلى الطابع المقدس والمتعالي للأحكام والمبادئ التأسيسية المنتشرة في خطب الجمعة (المنبر الديني) للمرجع وللأمين العام لجمعيته الطائفية السياسية (الوفاق) هذه الخطب التي لا يمكن فصلها عن النظام الديني الطائفي (ودولة ولاية الفقيه) التي يدعو اليها بالباطن ومنذ احداث ١٤ فبراير بالظاهر. والي البنية التراتبية للمجتمع (الولي الفقيه او خليفة المسلمين عند داعش في قمة الهرم يليه (علماء الدين (الملالي) فالجمعيات الطائفية السياسية التي تستغل الدين وامنائها ومجلس الشورى فيها فأعيان الطائفة ووجهائها ثم البقية من أفراد الطائفة (السواد الأعظم). وذلك عبر استغلال الدين في التفكير السياسي وتلازم (العقيدة المذهبية) والسلطة. وهذا ما يخلق الالتباس والتعارض القائمين بين ما يدعو اليه المرجع وذراعه السياسي الوفاق بين (السياسة الشرعية) والفلسفة السياسية او المدنية والاخيرة لا تحتل سوي الهامش الضيق والذي بدأت تراوغ وتناور وتسوف به سواء الجمعيات الطائفية السياسية او مراجعها او علماء الدين لديها بعد فشل مشروع دوار مجلس التعاون الخليجي؟ ان هذه المنظومة السياسية الرعوية تقوم بإعادة ترتيب علاقة (الدولة المنشودة لديها دولة ولاية الفقيه) وعلاقة الغنيمة بالوظيفة الدينية (علماء، ملالي) وعلاقة العقيدة (المذهبية) بطاعة الامام المرجع حيث تتحول (الطائفة) الي مليشيات كما هو الحادث في العراق ومليشيا حزب الله، والغنيمة الي ضريبة (خمس) والعقيدة الي مسوغ للاستئثار بالسلطة. كما حدث عندنا من الانتقال في كلا الطائفتين من الحركة الدعوية (جمعية التوعية الاسلامية، جمعية الإصلاح) ومن ثم الانتقال الي البعد السياسي تشكيل جمعيات سياسية طائفية امتداد للأذرع الام الدعوية. ومن ثم تأسيس المرجع يبدأ بالحركة الدعوية والمجلس العلمائي ثم تأسيس جمعيات ومنها تنبثق (القوة) المليشيات، ثم تأسيس المال والثروة. اذن هنا (الطائفية المذهبية والغنيمة والعقيدة) هي مبدا عملية التأسيس وغايتها. ومن هنا فان السلطة لا تستمد شرعيتها من (ميثاق) او (عقد) فالميثاق الفعلي هو فعل هيمنة وسيطرة على الطائفة ومن ثم المجتمع ككل مما يمكن (المرجع) من امتلاك مؤسسة لحراسة الدين وسياسة الدنيا بالعدل كما يدعي المرجع ولكن من دون عدل، بل كل ما هنالك عدل مأمول وهذا العدل مرتبط بمعادلة الطاعة بالعدل بهدف تعزيز فلسفة الهيمنة والسيطرة.
ان نموذج الخطاب السياسي بعد إغلاق جمعية الوفاق الطائفية السياسية وبعد سحب البساط من تحت المرجع الروحي والسياسي لها، قامت برفع صورة (المرجع) الي درجة التسامي والتجريد، لتتمكن من ترتيب سقف في النظر السياسي يجعل الفعل السياسي الدنيوي موصولا بالسماء ومماثلا لصورة (الاله) في تجلياته المفترضة والمتخيلة وذلك بمماثلة المرجع بالإله. هنا فان مركزية صورة (المرجع) في النسيج النصي والخطابي السياسي هو انعكاس لمركزية في الحياة السياسية للطائفة، كمركزية الاله في الكون، فهو السيد المطلق صاحب الامر والنهي لا يعلو عليه أحد لا رد لأمره ولا حد لإرادته وهيمنته وهو الراعي والحجة والآية والبرهان. هنا مكمن السلطة التي يتمتع بها (المرجع). ومع ذلك فان السلطة ضرورة تنتجها الحرية، وتقاومها في الوقت نفسه، وتفككها ثم تعيد إنتاجها، فما من سلطة لا تولد مقاومة او معارضة من داخلها او من خارجها، ولكن ولكل حال خطاب فقبل إغلاق جمعية الوفاق ليس كما كان قبلها وقبل سحب البساط عن مرجعها الروحي والسياسي ليس كما بعده. فالخطابات السياسية مرايا السلطة، بوجه عام او مرايا (المرجع) بوجه خاص. ان الرعوية نظام اجتماعي سياسي تكون فيه السلطة في شخص المرجع تستمد سيادتها وشرعيتها من مصدر علوي، اي من عقل اعلى من عقول البشر وحكمة اعلى من حكمتهم تضفي على السلطة و (المرجع) هالة من القداسة والمهابة. فالمرجع ظل الله على الارض والولي الفقيه يحكم بمشيئته ويدرك مقاصده في عباده، ويستلهمه في رعايتهم ويتدبر شئونهم، فلا راد لحكمه ولا اعتراض عليه. وما دام مصدر الشرعية مقدسا فالسلطة مقدسة وشرعيتها كذلك. والسلطة الشخصية هي سلطة المرجع في طائفته وعليهم وطائفته هم عصبته وعصبيته التي تستقوي بالمذهب (العقيدة) وتقويها، فلا تنفصل (الرعوية) عن عقيدة دينية او مذهب ديني، ولا تقوم بغير حمية عصبية يتضافر فيها الديني والسياسي من هنا فان المواطن او الفرد ينحكم الي هذه المعادلة الجهنمية هو ان المرجع هو الوالي المسلط على الرعية او المتسلط عليها، وهو حجة الله في ارضه، به تقام الحجة على الرعية، معصيته اثم يعاقب عليه في الدنيا والاخرة والثانية تبرر الأولي. والمعصية مدعاة للفتنه (والفتنه أشد من القتل) وهو المرجع والامام يؤثم به، والنور يستضاء به، وهو من يحكم ويأمر. ذلك انه لا راعي بلا رعية ولا سيد بلا تابعين (او بلا سواد أعظم) ولا مرجع بلا سلطة يتسلط بها على الطائفة (الرعية). هنا نكون ازاء علاقة (سيد / تابع) تسلط وخضوع ورضوخ، امر وطاعة، وقول وسمع، وتمكين وامتثال، واظهار وإذعان. وإذا تم التأمل هنا في معاني الامر والحكم والحجة والبرهان والسؤدد لتبين لنا ان (المرجع) راس الرعية (الطائفة) اي عقلها والعلماء (الملالي) نفسه، والرعية من الطائفة جسده. وشتان بين سمو العقل ووضاعة الجسد، سلطة العقل مطلقة على النفس والجسد. ان التوقف عند معني السلطة، اي القهر، فما من سلطة تخلو من قهر مادي ومعنوي، بما في ذلك سلطة المرجع وهذا ما يشاهد اليوم في الممارسة الاجتماعية والسياسية حول الاعتصام المفتوح حول منزل المرجع والذي تتأسس عليه مبادئ الحق (حق الأقوى) ومبادئ الأخلاق، اخلاق الامر والطاعة بل اخلاق الطاعة او (اخلاق العبيد) اذ كل قوي ملزم بطاعة من هو أقوى منه وإلا وجب قتله ماديا او معنويا.
الان لننتقل الي الضفة الأخرى من المكان الذي يودع فيه المواطن او الفرد مشاعره، وهو جمعيات ما يسمي بالتيار الوطني الديمقراطي (وعد، المنبر، التجمع) والتي من خلال تحالفها او تنسيقها او تعاونها او عملها المشترك مع جمعيات الاسلام السياسي الطائفي والتي حاولت معها ان تعيد انتاج الدولة التسلطية (الثيوقراطية) او (التحالف من اجل الجمهورية) منذ انطلاقة كارثة الدوار، فقد اعادت انتاج نوع من (رعوية جديدة)، تجلت في الظاهرة (الشعبوية) (populist). هذه الرعوية الجديدة او الشعبوية ولا فرق هنا، تتغذي من الأيدلوجية سواء كانت (دينية) ام علمانية ؟! فما من ايدلوجية او دعوة او عقيدة ( مذهب ) سياسية الا وتوحي بوجود عالم ( اخر ) متسق العناصر ، يلبي الحاجات البشرية اكثر من الواقع المعايش نفسه ( نوع من اليوتوبيا ) والتي ادخلت الجماهير المنفعلة بعفويتها الي عالم سمي ( بثورة ١٤ فبراير ) بمحض مخيلة ما يسمي بالزعماء والأمناء والملالي ، وتوهمت انها باتت في منجى من الضربات المتواصلة التي تكيلها الحياة الواقعية والاختبارات الحقيقية للجماهير وآمالها التي تم تزييف وعيها وجرها الي المغامرة وكانت اخر هذه الضربات وليس اخرها هي إغلاق ومن ثم حل جمعية الوفاق وسحب جنسية المرجع الروحي والسياسي لها . ان تعطش الجماهير وهنا ( ما يسمي الاغلبية الشيعية ) المنفعلة والعفوية والمقتلعة الي الوهم ( منصورين ، هيهات منا الذلة ، صمود ، الشعب يريد إسقاط النظام ) كل هذا له صلة بخصائص ( النفس ) البشرية التي تسارع بنيتها النسقية ، المتسقة ، الي الإحاطة بكل مصادفة ( هنا الخريف العربي ، الربيع الرمادي ) ، وتحويل ( الظروف ) الفوضوية والعارضة ، في هذا الظرف وبصورة ثابته ، الي ترسيمه من تناسق نسبي ( ثورة موهومة ) وعلى هذا فان فرار الجماهير من واقعية كما يذكر جرامشي ( الحس المشترك ) الوطني ومعقولية العالم ( ميثاق العمل الوطني ، المشروع الاصلاحي ) هو نتيجة اغترابها وتناثرها وفقدان موقعها الاجتماعي ، والذي ساهم في ذلك من قادها الي هذه الكارثة وهي جمعيات الاسلام السياسي والاتجاه المتطرف الشعبوي الطائفي او ( العلماني ) . هنا الأيدلوجية او العقيدة التي قادت هذه الجماهير هي أفيون الجماهير ، بالمعني الذي اراده ماركس من قوله ( الدين أفيون الشعب ) اي مسكّن لآلامه ، يمكنه من جعل عالمه ( الوهمي ) بديلا عن العالم ( الواقعي) فهي ( روح عالم بلا روح ) لقد تم استثمار البؤس والتهميش والجهل والطائفية والمذهبية كبيئة مناسبة لنمو الأيدولوجيات ونمو ( التطرّف ، العنف ، الاٍرهاب ) الذي يلازمها ، فلا يمكن فصل الوعي الأيدلوجي والوعي العصبوي الذي يأخذ طابعا طائفيا او مذهبيا عن الظاهرة ( الرعوية الحديثة ) ( الشعبوية ) والاندفاعات الغريزية العمياء سواء للجماهير ام للزعماء ام للملالي ، وقد اثبتت الوقائع في جمعيات ما يسمي بالتيار الوطني الديمقراطي وبالذات في المنبر التقدمي والذي يدعي الماركسية سهولة استبدال ايديولوجية باخرى . مع ان الماركسية من طبعها او جوهرها انها لا تقبل هذه الحركات البهلوانية في (التشقلب) من طرف الي طرف اخر او من نقيض الي نقيض اخر ؟!!!!! وهنا فليس بمستهجن تحول الماركسي الي قومي او إسلامي طائفي او القومي الي إسلامي او إسلامي الي قومي. وان يتحول الثوري الي مذهبي او طائفي، لان الوعي الأيدلوجي عندهم وعي عصبوي في جميع الأحوال، يغلف عصبة أولية لا تزال (هوية طائفية) او تحديدا ذاتيا لأفرادها، انطلاقا من (أصل) جوهري ممتد في الزمن الطائفي المذهبي
لقد درج المثقفون والسياسيين ( الحالمون ) عندنا او الجمعيات السياسية وبالأخص الاسلام السياسي ( الشيعي / السني ) ومن خلفهم جمعيات ما يسمي بالتيار الوطني الديمقراطي على إيلاء ( العامل الذاتي ) اهمية قصوي في التغيير الاجتماعي ( تمحور الصراع بين السلطة / المعارضة ) وخصوصا عند ما يسمي باليسار لا تأثرا ( بالنظرية اللينينية ) والنزعة الإرادوية ، التي لقيت رواجا واسعا لدي اليساريين وغير اليساريين ، بل استجابة لواقع تجر فيه السلطة جميع العربات ، او تسير جميع قطاعات المجتمع ، ولا سيما قطاع الانتاج ، والقطاعين ، الاقتصادي والمالي . وهذا مالم تلتف اليه تلك الجمعيات ؟! لذلك خَيل للجميع للإسلام السياسي بشقيه وجمعيات ما يسمي بالتيار الوطني الديمقراطي ان مجرد السيطرة على هذه القاطرة (السلطة) من خلال انقلاب سمي (بثورة ١٤ فبراير) سيحل جميع المشكلات، وسيفرض (التغيير الاجتماعي) من (فوق) ذلك هو حال المجتمعات ما قبل الصناعية، التي لا يحتل فيها (العمل المنتج) سوي حيّز ضيق جدا من حياة (الفرد) اليومية ولا يحتل فيها الانتاج الحديث الا حيّزا ضيقا من الفضاء الاجتماعي. فليس غريبا عند (المواطن / الفرد) او (الجمعيات السياسية) جهل مقولتي المجتمع المدني والدولة السياسية وجهل تناقضها الجدلي، والنظر إليهما بازدراء، بصفتهما مقولتين بورجوازيتين ومنجزين غربيين (لا يناسبان طبيعة مجتمعنا) والاسوء هو انه تم استغلال هاتين المقولتين من قبل العلمانيين لتغطية الاجندة السياسية للجمعيات الما قبل مدنية والما قبل وطنية ؟!. هنا يتم إيهام ( المواطن / الفرد ) ازاء هذه المعادلة المقلوبة : السلطة هي من يخلق الانتاج ويسيره والسلطة هي من تملك المبادرة والأمور كلها بيد السلطة وهذا الخطاب تكرس بعد فشل مشروع الدوار الكارثي لا الانتاج هو ما ينتج السلطة ويسيرها لذلك تم تعبئة وحشد الجماهير سواء في الدوار او عبر المسيرات والتظاهرات او الاعتصامات الخ من اجل إظهار ( القوة ) قوة سلطة الجمعيات الطائفية السياسية على الشارع المطيف سياسيا وقوة ( المرجع الروحي والسياسي ) الذي هو مركز الحياة السياسية ( المرجع او لا استقرار في البلد ) هنا المواطن / الفرد يجب ان يعي ان عكس هذه المعادلة اي في الانتاج الاجتماعي الذي ينتج السلطة ويسيرها ، وهنا يكمن رهان المواطنة والوطنية ورهان المجتمع المدني والدولة السياسية ، ورهان الديمقراطية .لا في إرادة وما يراه الملالي او الزعماء او افكارهم ولا في شعاراتهم .
إذا أضاء العقل مرة فلن يعود مرة اخرى الي الظلام. توماس بن. ان مجرد وضع هذه الجملة في العام او المطلق هو ما يربك الاخر الذي يقرئها وهي ذلك انه لكي لا يعود مرة اخري الي الظلام هو ان يصبح المواطن / الفرد (واعين) للحدث وهذا شيء مختلف عن مجرد موافقتهم على (الأفكار) التي يسمعونها. ان (تعي)، يعني ان (تصحو) على الحدث والذي كنت قد (شعرت) او (احسست) (الدرجة الحسية من المعرفة) به دونما تفكير، ومع ذلك يشعر المواطن / الفرد، انه طالما (عرفه)؟ انها عملية لها أثر تنشيطي وتفعيلي لأنها عملية داخلية فعالة (وهذا ما يسمي بالتفكير المنهجي) وليست عملية (استماع)، (موافقة)، او تناقض حاد سلبي وليس إيجابي. هنا (الوعي) المقصود به هو ان يشير (الوعي) الي (النظام ككل) وليس الي سمات (معزولة) ومبعثرة. ليس كافيا ان تطرح مثلا العمالة السائبة، او المجنسين او رفع الدعم وفرض الضرائب او حقوق الانسان او ان الحرب الطائفية المذهبية عديمة المعني وخطيرة ولا اخلاقية او ان الاستهلاك الزائد واستخدام مزيد من الأجهزة ذات التقنية العالية يأتي بالسعادة بل هو يخدر الضجر الخ. من الضروري ان نعي ان كل هذه المسماة هي (اجزاء) من نظام ينتج، حتما كل هذه الأعراض (مثل صور الدماغ والتي تحوي العديد من أشكال الادمغة (حذاء، لمبة، قفل، طابوق، أموال، كتب). ان (تعي) ان لا شيء ينجز إذا ما صاغ المواطن / الفرد أعراضا (معزولة)، بل ينبغي ان يصلح او ان يغير النظام الذي تضرب جذورها فيه. هذا يعني ان (نعي) طبيعة النظام والذي فت في عضده الحلف الطبقي والجمعيات الطائفية السياسية، والذي تقوده أهداف تسلطية تضفي على نفسها الهيبة من الضروري ان (نعي) ان هذا التشوه الخلقي والذي فت في عضد المشروع الاصلاحي (النظام ككل) يجرد الانسان من انسانيته، وأن الانسان (مغرب ومستلب) فيه. يجب ان (يعي) الناس ان هذا النظام يعمل فقط (بإجماعهم الوطني) وعبر تعاضدهم وتعاونهم، وأنهم ان أرادو ان يصلحوه او يغيروه، فمن الممكن اصلاحه وتغييره ما دامت العملية الديمقراطية موجودة. كما يري الكاتب ايرك فروم.
ومن هنا تأتي المهمة الثانية وهي انه لا يكفي أبدا ان يعي الناس النظام بل لابد من ان يروا (البدائل) في الواقع
إحدى العقبات الرئيسية التي تعترض الأفعال العقلانية الملائمة للخروج من الازمة تكمن في حقيقة ان المواطن / الفرد او المواطنين الافراد اما انهم أصبحوا لا يَرَوْن اي (بديل) للوضع الراهن، او ان ما يعرض عليهم من بدائل سواء من الحلف الطبقي او الجمعيات الطائفية السياسية (سنية / شيعية) هي مخادعة ودعائية. وهذا الارباك والتشوش الحادث عند المواطن / الفرد المقصود منه فقط لتبرهن لهم ان عدم وجود (بدائل) حقيقية هو في صالحهم؟، ان إحدى هذه (البدائل) المخادعة هو اقتراح العودة الي الروابط الأولية في المجتمع (الطوائف) او قبول مجتمع الاستهلاك والفساد. او اقتراح الجمعيات السياسية الطائفية ومن انجرف خلفها من جمعيات تسمي وطنية ديمقراطية في الحقل السياسي، هو السماح بانهيار مملكة البحرين وفقا لنظرية الدومينو والتي مورست مع ما سمي بالربيع العربي ؟!. البديل المخادع الاخر كما هو حادث في سوريا بين سلب الناس حرياتهم وملكياتهم او القبول بالدكتاتورية او الفاشية والدولة البوليسية الاستخباراتية
ان تمحور الصراع كما ذكرنا سابقا بين (السلطة / المعارضة)، يؤدي الي تخفيض السياسة الي مجرد صراع عصبيات طائفية -مذهبية على السلطة والقوة والثروة، تقنعه شعارات براقة وأيدولوجيات ثورية او جهادية، هو الأساس العميق للشعبوية، على اختلاف تلاوينها في البحرين القومية والإسلاموية والاشتراكية، بما هي، اي الشعبوية، استثمار سياسي في العصبيات والأصوليات والهويات الطائفية المذهبية وفي الثقافة الشعبية والتاريخ والتراث، لاكتساب (الشرعية) والتي سميت مع احداث ١٤ فبراير بالشرعية الثورية. فما من سلطة، ليبرالية كانت ام ديمقراطية ام استبدادية الا وتحتاج الي شرعية، لذلك فان مصدر الشرعية الفعلي هو ما يحدد طبيعة السلطة وطبيعة ممارستها وخطابها وشعاراتها. ان تمحور الجمعيات السياسية في البحرين وخصوصا بعد فشل مشروع الدوار على (العامل الذاتي) والذي أخذ شكل (الوعي الإرادة التنظيم) والمستند على (المرجع، الزعيم، الأمين العام) الذي كان وما يزال أساسا للشعبوية الغرائزية، وهو يحمل جرثومة الاستبداد. من هنا تأتي الدعوة الي اعادة التفكير في العلاقة الجدلية بين (الذات / الموضوع) على الصعيدين المعرفي والسياسي، ومن أهمها انتفاء مبدا (الحتمية) (باقون حتى يسقط النظام) ومبدأ الاطراد (منصورين) ليحل محلهما مبدا الإمكان والاحتمال وانبثاق اللا متوقع (الصدمة عند جمعيات ما يسمي بالتيار الوطني الديمقراطي من حل جمعية الوفاق وسحب جنسية مرجعها الروحي والسياسي) وتأثر موضوع المعرفة والعمل بالذات العارفة والعاملة (الاستقلالية)، علاوة على وحدة الزمان والمكان في اللحظة الراهنة. ان تصحيح هذه العلاقة عند تلك الجمعيات هو الأكثر الحاحا في اللحظة الراهنة لكي تجد حلول للازمة التي تهدد وجودها على الساحة السياسية مما يؤدي الي تلاشيها ، ذلك ان تصحيح العلاقة بين الذات والموضوع من شانه ان يعيد تعريف السياسة بانها ( شان عام ) وليست شان خاص بالجمعيات فقط ( تنشغل الي تشتغل بالسياسة ) ان العودة الي تحويل السياسة الي شان عام ، وفضاء مفتوح على احتمالات شتي وممكنات مختلفة ، فضلا عن كونها علم الدولة ، وعلم إدارة شئون الدولة ، يدرجها في عملية تحسين شروط الحياة الاجتماعية وتحسين نوعيتها ، كما من شانه ان يعيد تعريف المجتمع وليس الطوائف والقبائل ، بصفته قوة سياسية ( الكتلة الصامتة ) ، وتعريف المواطن / الفرد ، بصفته فاعلا اجتماعيا ، وليس طائفيا هذا بغض النظر عن شروط ولادة هذه ( الكتلة الصامتة ) او ولادة هذا المجتمع ، فتكف السياسة عن كونها مجرد صراع على ( السلطة ) كما هي عند الجمعيات الطائفية السياسية ومن انجرف خلفها حيث وظفت فيها اكثر الغرائز همجية وأكثر الأساليب الانتهازية والمنافقة وذات النزعة للعنف والميل الي الاٍرهاب .
لقد بات واضحا وخصوصا منذ الانفجارات السياسية التي تولدت عما سمي بالربيع العربي والذي تم تسميته عندنا بالربيع الرمادي، ان المواطن / الفرد بات يودع مشاعره الاجتماعية تحت ما يسميه ابن خلدون (العصبية) هذا المفهوم الذي لا يزال أكثر قوة ونجاعة لتحليل البني الاجتماعية والسياسية القائمة في بلادنا، والتي يودع المواطن / الفرد فيها مشاعره. العصبية في اللغة (ان يدعو الرجل الي نصرة عصبته والتألب معهم على من يناوئهم ظالمين كانوا او مظلومين. والتي تحولت عندنا الي (عَصّب) مذهبية او فكرية او سياسية، هنا تظهر وجهة نظر العصبية المتمركزة على ذاتها، ولكل عصبة أصل وفروع، وأيام ووقائع وابطال وشهداء وسرديات وأساطير وحكايات ورموز ومرويات ومأثورات، تعزز وحدتها وتؤكد تمايزها، وتجعل منه (هوية) ثابته ودائمة وعابرة للزمان والمكان. وهنا تمثل العصبية رابطة اجتماعية -سيكولوجية، شعورية ولا شعورية معا، تربط أفراد الطائفة / المذهب ربطا مستمرا يبرز ويشتد عندما يكون هناك خطر يهدد أفراد الطائفة / المذهب. كما هو حادث عندنا اليوم مع تداعيات ما سمي (بثورة ١٤ فبراير). العصبية هنا (علاقة) بين المواطن / الفرد والطائفة / المذهب فقد صارت الطائفة هي البيئة التي يتنفس من خلالها هذا الفرد / المواطن وأصبحت تحده وتحاصره من كل جانب. فالفرد / المواطن الذي أفنى ذاته او ذابت في الطائفة / المذهب، حتى بات لا يعرف نفسه ولا يعرفه الآخرون الا بهما ومن خلالها غدت هنا الطائفة / المذهب من الناحية المعنوية هي التي إذابته في سديمها، اي أذابت ذاته وقوام شخصيته وهذا ما يسمي تماهي الفرد / المواطن والعصبة. فالعصبة هنا قوام الفرد / المواطن، والعصبية ذاته، وما يحدد علاقتها وعلاقاته بالأخريات والاخرين، والتعصب من أبرز علاماته الفارقة، لذلك كانت العصبة والعصبية متناقضتين مع استقلال الفرد / المواطن وحريته ومع كيانه الإنساني. هنا مبدا العصبة والعصبية هو (هدر الانسان) ولا سيما انها تقوم على تراتبية الاحترام من جانب واحد كما هو الحال الان مع المرجع الروحي والسياسي لجمعية الوفاق سابقا وشعار (الفداء) يحمل مثل هذه التبعية، فلا يتجلى هدر الانسان في شيء أكثر مما يتجلى في هدر فردية الفرد / المواطن وإذابتها وإذابته في سديم الطائفة / المذهب وإخضاعها وإخضاعه لما يريد الملالي ومرجعهم، وإلا كان مصير الفرد / المواطن الحجر او العزل او الأبعاد والنفي او التبرؤ منه وهدر دمه. فالعصبية من هذه الزاوية سلطة تراقب وتعاقب. ولنا ان نقرن هدر الفرد / المواطن وانكار فرديته وذاتيته وفرادته بإنكار الاختلاف أساسا، وهو إنكار للحرية وتنكر لها، ومن ثم، بهدر الاخر المختلف (السني) (الموجود هناك) وراء حدود العصبة وخارجها. ولنا ان نستنتج من ذلك ان التماهي بالعصبة (الطائفة / المذهب) هو مؤسس على إنكار الاخر (المختلف) والتنكر له وهدر كرامته الانسانية وصولا الي هدر دمه واستحلال عرضه وماله على الهوية الطائفية
ان القوة المحركة للعصبية هي المصلحة المادية والمعنوية المشتركة، من هنا انبثق التنسيق والتعاون والتحالف بين الجمعيات الطائفية السياسية وما سمي بالجمعيات التيار الوطني الديمقراطي والتي انجرفت خلف هذه العصبية وكذلك جماهير الطائفة. فبعد تداعيات احداث ( ما سمي بثورة ١٤ فبراير ) وفشل الانقلاب والضحايا الذين قدموا كقربان على منصة الدوار وبعد ذلك في كل المؤسسات من فصل وتدوير وتجميد الي اخره ، برزت المصالح الخاصة والشخصية وطغت الي حد ما على المصلحة المشتركة وبدا يدب الارباك ويتفكك التحالف وان أخذ صبغة شكلية ( ما سمي بالمراجعة النقدية الشكلية ) وان لم يصل الي مرحلة الفرقة والانشقاق وفك الارتباط ، اذ يطغي إلانا الشخصي على ( إلانا العصبي ) فتضعف العصبية ، بضعف اساسها المادي ، ويمكن ان تتحلل ، اذا ما ضعف اساسها المعنوي ، اي الشعور العصبوي و ( الوعي العصبوي ) وهو ما يحاول النظام عبر الهندسة الاجتماعية تشكيل مجمع من الشخصيات وتحت مظلة تنظيمية جديدة هي ( مجالس القري ) وعبر إغلاق وحل جمعية الوفاق وسحب جنسية مرجعها الروحي والسياسي الشيخ عيسي قاسم مما ترك جماهير الوفاق والجمعيات التي انجرفت خلفها في ( صدمة ) . مع الأخذ في الاعتبار ان ضعف الروابط الناجمة عن المصلحة المادية المشتركة لا يرافقه دوما ضعف الروابط الناشئة عن المصلحة المعنوية المشتركة التي تتجلي في (إلانا العصبي) وان ضعف اساسها المادي. ومن هنا نتفهم حركة الاعتصام للمواطنين والافراد حول منزل الشيخ عيسى قاسم وتقديم (الفداء) له. والسبب يكمن في مكان اخر ذلك لان تنكر العصبية للآخر (السني) المختلف والغريب هو ما يحافظ على العصبية المعنوية ويقويها. الاخر الذي تحبسه في عصبته وعصبيته يحبسها في عصبتها وعصبيتها. وتظل العصبية مطالبة ومدافعة منذ احداث الدوار والي الان والتي تدرجت من إسقاط النظام الي الوصول الي المطالبة بالجلوس الي طاولة حوار (وطني) هنا طائفي بامتياز. فما ان تمتد عينها الي ما لدي الاخر حتى تمتد يدها اليه، إذا توافرت لها شروط القوة اللازمة، او تغير ميزان القوي لصالحها (هنا الوهم) ومن هذه الشروط تماسكها الداخلي وقدرتها على المدافعة. فغاية العصبية هي السلطة والسيطرة والسيادة، ولا يتأتى لها ذلك الا باستتباع العصبيات الأخرى او إخضاعها كما هو حادث في عراق اليوم بقوة المليشيات الطائفية (الحشد) اي بالقوة العارية، ما يؤكد ان منطق العصبية هو الاستتباع والإخضاع او الغلبة والقهر ازاء الاخر (هنا السني) والتبعية والخضوع للأقوى بالرغم من رفع شعار اخوان شيعة وسنه وهذا الوطن ما نبيعه). الاستتباع والإخضاع او التبعية والخضوع سواء في علاقة المواطن / الفرد بالمرجع او بعلاقة العصبية الطائفية / المذهبية بالعصبيات الأخرى ترد كلها الي علاقات القوة والامل في تغير ميزان القوي ؟! ومن هنا تريد هذه العصبية ان تحقق الغلبة على (مواطنيها / أفرادها) فتخضعهم وتستتبعهم، او تبلعهم، لتعيد انتاج نفسها وتماسكها وتلاحمها الداخليين، لكي تتطلع مرة اخري الي استتباع وإخضاع العصبية الأخرى (السنة هنا) وتنتقل الي الخطوة الأخرى الدولة والسيادة والسلطة. اذن فالتوتر والتنابذ والصراع بين العصبات والعصبيات (الهويات) هو ما يزيد كلا منها تلاحما وتماسكا، لذلك يمكن اليوم الحديث عن عصبيات مركبة (العصبية المذهبية (الطائفية المذهبية)) والعصبية الحزبية عند المنبر التقدمي ووعد والتجمع. لذلك رأينا ان تفسير الحاجز الاجتماعي والصراع الضاري على السلطة والثروة ومصادر القوة بمنطق العصبية ومكاسبها أكثر ترجيحا من تفسيرها (بالصراع الطبقي) او بتناقض الريف / المدينة او الهامش والمركز او تناقض المجتمع المدني والمجتمع السياسي. ومن ثم فان العصبية هي المدخل للفهم المناسب لأين يودع المواطن او الفرد مشاعره الاجتماعية، والبنية السياسية والاجتماعية والتحقق هنا من قوة (الرعوية) ومعاندتها للمواطنة الحديثة.
لماذا لم يفكر المواطن / الفرد في مدي عمق التمدن في حياتنا الاجتماعية والسياسية والثقافية والأخلاقية ومدي رسوخه فيها؟ ولماذا لم يطرح على نفسه حالات النكوص المريعة والمخجلة عن المدنية في المدن او القرى البحرينية؟ ولماذا لم يتأمل حتى الان سر الخيارات التي خاطرت وغامرت به في احتجاجات وما سمي بانتفاضة او حتى (ثورة ١٤ فبراير) أدت الي تدميره الذاتي والتي لا زالت مستمرة في غير مكان في البحرين؟ وهذه الاسئلة توجه كذلك لأعضاء الجمعيات السياسية كلها في البحرين قبل ان توجه الي المواطن / الفرد؟ لعل كلمة السر تكمن في تنكر كل عصبية (العصبيات المذهبية الطائفية، العصبيات للأحزاب) لإنسانية أفرادها وأعضائها قبل التنكر لإنسانية أهل العصبيات الأخرى، وتنكر المواطن / الفرد العصبوي لإنسانيته هو قبل تنكره لإنسانية الاخر. وهذا ما حدث بالضبط في المجتمع البحريني للأسف والكارثة. فالعصبية نسق مولد (للهمجية) وبيئة مناسبة لإعادة إنتاجها. من كان يتصور ان البحرينيين يمكن ان يفعلوا ما يفعلونه اليوم بأنفسهم ومواطنيهم ووطنهم؟ بعد الانفراج السياسي والهامش الديمقراطي في ظل مرجعية ميثاق العمل الوطني والمشروع الاصلاحي؟! من كان يتصور ان يتراشق المواطنين بنعوت المرتزقة والطبالين ومن الجهة الأخرى بالروافض والمجوس الخ وما سر شرعنه (اسحقوهم) سوى الهمجية؟ اي لماذا كل هذه (الهمجية اليوم) كما نراها أكثر فاقعة في سوريا، العراق، اليمن، ليبيا الخ. هل هذه الهمجية وليدة واقع هو استحالة العودة الي الماضي وصعوبة المضي نحو المستقبل ومن ثم وليدة قطيعة اخلاقية واقعية مع اخلاق الماضي (النصية)، او التقليدية ومن جهة اخري قطيعة مع اخلاق الانسانية الحديثة والمعاصرة، من الجهة المقابلة. اي نتيجة حالة مأزقيه لا يستطيع المجتمع معها لا ان يتقدم ولا ان يتراجع كما وصفها شوقي العلوي (ام اننا عاجزون). ان السبب يكمن في (العصبية) اذ هي كلمة السر التي تفتح مغاليق نظام الطوائف المذهبية (الحديث) او النظام الرعوي الحديث، وتساعد على فك رموزه، على اعتبار نواته الأولية (الروابط الطائفية الأولية) وتفسر من ثم واقع الحاجز او الفاصل الاجتماعي، وتعين طبيعة السلطة المنشودة حسب طبيعة من سيمارسها، وطبيعة السياسة بصفتها حربا باردة او حارة (كما تطالب ما تسمي بالمعارضة بتبريد الجو السياسي عوضا عن تسخينه ؟!) الأهم عندها هو دوام (الوعي العصبوي) وتشكل الانا العصبوي والذات العصبوية. وليس هناك فرق كبير بين كون هذه الذات جماعة مذهبية طائفية او جمعية سياسية عقائدية اذ أوضحت احداث ٢٠١١ وما سمي بثورة ١٤ فبراير بانه أصبح من المؤكد اقتران كل عصبية بأيدلوجية معينة حتى لو ادعت مثلا جمعية وعد بانها عومت الأيدلوجيا ؟!.
اذن العصبية الممزوجة بعقيدة مذهبية -طائفية او بعقيدة جامدة هي وطن المواطن / الفرد العصبوي وموطن اعتزازه، واساس رؤيته او تصوره سواء عند المواطن / الفرد او الجمعيات السياسية لما هي الأمة (الشعب) وماهي العروبة او الاسلام. العصبية الطائفية المذهبية هي نواة التعصب للعروبة او الاسلام، او لتركيبهما التاريخي، ونواة موقف (المرجعيات الشيعية) او (أهل السنة والجماعة) من الجماعات المذهبية الأخرى، ولا سيما الاسلامية منها. ان رفض المنظرين الاسلاميين (سواء في الطرف الشيعي او السني) ومنها ما جاء في حوار السيد جواد الخوئي (علاقة التعايش بين الطائفتين الإسلاميتين، في العراق) وحركات الاسلام السياسي الذراع السياسي للمرجعية او الخلافة ان يكون الدين الاسلامي (شأنا شخصيا) يتعلق بذاتية الفرد، بغض النظر عن كونه شيعي ام سني عربي مسلم. من مثل الجملة التي استشهد بها السيد الخوئي للأمام احمد الطيب (السنة والشيعة جناحي هذه الأمة). والمصالحة التي يراها السيد الخوئي (مصالحة جادة وحقيقية واستراتيجية شيعية -شيعية وسنية -سنية وشيعية سنية ومن ثم المشروع (المقدس) المواطنة (العابرة للأديان والمذاهب) ؟!!!! هذا الكلام يأتي بعد ان تم تنفيذ المشروع الطائفي والقفز على ان الدين شان خاص يتعلق بذاتية الفرد على انه (دين ودنيا ودولة، مصحف وسيف) بتعبير حسن البنّا والذي أخذ عنه الخميني وطبقه على ارض الواقع والذي تطبقه الان دولة المحاصصة الطائفية في العراق والتي أصبح العدو اللدود لها كما يري السيد الخوئي داعش فقط ولا يرى الشيعي الإرهابي الموجود في مليشيا الحشد او في حزب الله ؟!! اذن هذه هي المعادل الواقعي لحصرية اسلام المتكلم او مذهبه والذي لا ينفيه السيد الخوئي؟ وهو السبب المباشر الذي حال ولا يزال يحول دون ان يكون الاسلام كونيا وعصريا. وهنا فان السيد الخوئي يتحسر على السقوط المدوي للشعار المعارض (هيهات منا الذلة) كما تحدث (كانت السمة الغالبة عند الشيعة عبر القرون المظلومية والعقلانية، فتساءل هل ما زالت موجودة؟) انه السقوط امام الاختبار عندما تنتقل من المعارضة الي السلطة عندها تنهار هذه الشعارات وتسقط مثل أوراق الخريف العربي. فالمشروع القديم الجديد وهو الصحوة الاسلامية التي طرحتها إيران او تصدير الثورة الاسلامية او اسلمة العالم او (اسلمة العصر) حسب تنظير فهمي هويدي والحركات السلفية الجهادية، شيء مختلف عن كونية الاسلام وعصريته. وهي الحقيقة التي تغيب عن هؤلاء المنظرين وحركات الاسلام السياسي وهي لا يصير الاسلام دينا كونيا وعصريا الا إذا صار فرديا متعلقا بذاتية المسلم، وليس كما يدعو السيد الخوئي بندوات هنا وهناك ؟!! اثبتت فشلها من مثل حوار الأديان والذي اثبت انه حوار بين مذاهب وطوائف ؟!. وان يكف المسلمون جميعا عن اعتباره نظاما اجتماعيا وسياسيا، ولا سيما في مجتمع متعدد الطوائف والمذاهب الاسلامية وغير الاسلامية، وإلا سيظل مذاهب وطوائف متفاصلة ومتنازعة لا يعدو اي منها كونه (عصبية) غالبة او مغلوبة.
اذن تنفرد الجماعات الطائفية -المذهبية بكونها (عصبيات مركبة -شبكات موسعة) تتألف من عدة (عصبيات) تنتمي الي (أصل) مشترك او تدين بعقيدة مشتركة، والانتماء في الحالين انتماء جماعي ينتقل من السلف الي الخلف. وهذه هي السمة لكل الطيف السياسي من الجمعيات الطائفية السياسية سواء لدي الشيعة او السنة في البحرين وعلى صغر حجمها الجغرافي ففي الطرف الشيعي هناك كثرة من الجمعيات منها ما هو كان علني ومنها الغير شرعي والعلني ( الوفاق ، أمل ، وفاء ، حق ، خلاص ، احرار البحرين ، ائتلاف ١٤ فبراير ، مركز البحرين لحقوق الانسان ، الاخاء ، الخ ) وكذلك في الجانب السني ( المنبر الاسلامي ، الاصالة ، الصف الاسلامي ، الشوري ، الخ ) ، ان ما يجمع هذا الطيف السياسي هو الانتماء الجماعي الذي يسم الجماعة الطائفية المذهبية والذي نسجته مصالح مادية ومطامح ( سياسية ) أساسا قوته او ضعفه ودوامه او زواله رهن بهذه المصالح وليس ادل على ذلك في أيامنا من انحلال العصبية ( القومية العربية ) وانحلال أحزابها سواء البعثية ام الناصرية . والصراعات بين الأحزاب الطائفية السياسية في العراق على الغنيمة السياسية وامتيازاتها وسرعة تفشي الفساد فيها مما يفت في عضدها لولا الانتماء الجماعي الذي يسم هذه الجماعات الطائفية المذهبية! ذلك ان من طبيعة المصالح والمطامح الخاصة انها لا تظهر عارية، فلا بد لأي منها من عقيدة جامعة تستر عريها، وتقدمها على انها الخير الاسمي للفرد والمواطن والطائفة، وتسوغ التفاوت في الثروة والقوة والمكانة. كما هو حادث في العراق بشكل فاقع، فتعد الفقراء والضعفاء (المستضعفين) بجزاء مؤجل، وتجعل من الصبر والتحمل فضيلة، ومن الطاعة والتعبد والشكر على السراء والضراء شرطا لثواب الآخرة. والتعبد هو ان يجعل الانسان من نفسه عبدا ذليلا بطوعه واختياره !!! بينما يقوم المتنفذين من فئة رجال الدين الملالي وأذرعهم السياسية بالاستحواذ واحتكار مصادر السلطة والقوة والثروة؟ عندما يودع المواطن رصيده ومشاعره في (هذه العصبيات) فانه لا يعي ان هذه العصبيات لا تعيش الا على التهام مواطنيها وأفرادها وتذويبهم في بؤرتها، تتغذي بانتمائهم اليها وولائهم لها وذودهم عنها، فهذه العصبيات من دون هذه الحاضنة ومن التهامها تذوي وتضمر وقد تموت. فهي أشبه ما تكون (بالثقوب السوداء)، تمنع أفرادها وتابعيها من الانطلاق في الفضاء العام والتفاعل مع نظرائهم من مواطنين وأفراد. المواطنين / الافراد هنا مجرد أدوات لا كيان (مستقلا) لأي منهم، لان (استقلالهم) هو ضعفها والسبيل الي موتها وزوالها. كما كان تطرح جمعيات ما تسمي بالتيار الوطني الديمقراطي ما قبل وما بعد احداث ١٤ فبراير ان قوة الحزب الثوري تكمن في التزام أعضائه وانضباطهم الحديدي؟ فالأحزاب العقائدية تكثف جميع مثالب العصبية الطائفية -المذهبية. هذا التشابه بين الحزب العقائدي والعصبية يلقي ضوءاً كافيا على معني السياسة ومضمونها الرعوي، ويكشف القناع عن طبيعة (الزعماء والأمناء اصحاب السلطات الثورية)، بما هي سلطات عصبوية. فليس من قبيل المجاز وصف السلطة الاستبدادية في تلك الجمعيات بانها سلطة (عصبة او عصابة) لا سلطة نخبة وقيادة ؟؟.
يقوم نظام السلطة في الجماعات الطائفية -المذهبية على البنية الأبوية وفئة رجال الدين غالبا (المرجع او المرجعية) يمسك بزمامها (او زعامتها) ويتوفر على مقومات القوة والثروة والقيادة، يضبط هذا الزعيم -المرجع الجماعة العصبية الطائفية -المذهبية
ويحتل دور الحكم عبر الفتاوي والطلب بالانصياع والاذعان لها، فارضا سلطته تحت غطاء شكل وجوهر (ديني يرمز من خلاله الي البعد الطائفي -المذهبي) على الجميع. كما يتصف نظام السلطة بالمراتبية الجامدة نسبيا على شكل دوائر قوة يحتل الزعيم المرجع نواتها يتربع فيها الزعيم المرجع الهرم التنظيمي ويتحصن بمؤسسات غير منتخبة مثلا جمعية التوعية الاسلامية، المجلس العلمائي والمرجع الروحي والسياسي لجمعية الوفاق المنتخبة ؟! يليه الخاصة بقية أفراد المجلس العلمائي والامين العام للذراع السياسي لجمعية الوفاق في وسط الهرم ثم بقية أفراد الطائفة في قاعدة الهرم هذا الشكل الدائري والذي يشغل فيه الزعيم -المرجع مركز الدائرة الأولي وتحيط به دائرة خاصة الخاصة (العلمائي) ثم دائرة الخاصة جمعية الوفاق، ثم دائرة أعيان الطائفة ثم دائرة بقية أفراد الطائفة
والي ذلك تحمل العصبية الطائفية -المذهبية جرثومة (العنف) في بنيتها ذاتها. تظل هذه الجرثومة كامنة في حالات الصراع البارد هنا مع انطلاقة المشروع الاصلاحي، وينتشر وباءوها في حالات حروب (الهوية) والتصفيات الطائفية او حتى السياسية هنا مع انطلاقة ما سمي (بثورة ١٤ فبراير). العصبية الطائفية-المذهبية من حيث بنيتها، تتضمن دائما شحنة عدوانية قابلة لان تتحول الي صراعات دامية وتصفيات مع الاخر، وهذا كان سيناريو احداث ١٤ فبراير، ذلك ان الشحنة العاطفية الانفعالية المميزة لها تجعل هذا الامر شبه محتوم حين تتوافر الظروف الخارجية والذاتية كما حدث عندنا منذ ٢٠١١. وهذا ايضا ينطبق على العصبية الطائفية السنية. ففي هذه الشحنة تتركز كل العواطف الإيجابية في العصبية، مما يكسبها دلالة القيمة المطلقة التي تبلغ حد النرجسية. انها الكيان الطيب السلمي (السلمية) المنزه عن الشرور والظلم. وهي في نفس الوقت توجه كل السلبيات ومظاهر السوء والانحطاط الي الاخر. الي العصبيات الأخرى. هذه الشحنة العاطفية الساخنة والمدمرة، والتي يطلق عليها حرب التدمير الذاتي هي هدر للإنسان وناتج عمله وإبداعه وهدر للوطن والوطنية وهدر للمدنية، ونكوص الي الهمجية. لعل كثرة الكلام عن الديمقراطية وحرية الفرد وحقوق الانسان وحقوق المواطن تعني ان نقيضها هو الفاعل في الواقع، والجاثم على صدور المواطنين والافراد. وما ذلك الا بحكم قوة العصبيات الطائفية-المذهبية والأصوليات والهويات القاتلة ورسوخ الاستبداد في البنى الطائفية السياسية. فما من سبيل الي حرية الفرد وحقوق الانسان والمواطن الا بدحض وتعرية ونقد العصبيات الطائفية -المذهبية وتعرية جذور الاستبداد فيها. هذه المهمة التي يحاول الكاتب عبيد عبيدلي ان يثني المثقفين عن القيام بها ففي مقاله المنشور في جريدة الأيام والذي جاء تحت عنوان: مخادعة الذات البحرينية سياسيا. (هناك مخادعة سياسية للذات البحرينية تُمارس يوميا فوق مسرح العمل السياسي تبدأ ذلك من حيث يبدأ قادة هذا المشهد الذين لا يكفون دون استثناء على ترديد مقولة واحدة مفادها محاربتهم (للطائفية) وعلى وجه التحديد ذلك النمط منها الذي يرتكز الي (الطائفية السياسية) هذا هو الخطاب الشائع اليوم في سوق العمل السياسي في البحرين)
هنا نحاول الإجابة على سؤال عبيدلي العبيدلي والذي طرح في نهاية مقاله المنشور على جريدة الأيام (مخادعة الذات البحرينية سياسيا) وهو من هو المستفيد من حالة مخادعة الذات السائدة؟ فإذا انطلقنا من التحليل او بالأصح الفهم الذي توصل له عبيدلي وهو ان مكونات العمل السياسي البحريني منقسمة طائفيا الي أربع فئات رئيسية
١- قسم ومن مطلقات طائفية بحته يتوهم انه الأكثر ثورية، منصبا نفسه بديلا وحيدا لباقي المكونات.
٢- قسم تناقضه الرئيس مع الفئة الأولى -(القسم الاول).
٣- (قسم) متفرج على الطرفين (١+٢) يشعل فتيل الطائفية.
٤- حفنة (لم يذكر قسم) من المثقفين السياسيين والمتقاعدين من العمل السياسي يسكب الزيت على نيران الطائفية البغيضة.
من هنا ينطلق عبيدلي كي يفهم مكونات (الساحة السياسية) مما يمكنه ليكون قادرًا على قراءة سيناريوهاته؟ ففي الوقت الذي يحاول ان يستخدم جملة (مخادعة الذات) عندما تقارب الطائفية وعلى وجه التحديد ذلك النمط منها الذي يرتكز على الطائفية السياسية. ومنها يصل الي الاستنتاج الاول الخاطئ وهو ان المحصلة الطبيعية المتوقعة من ذلك السلوك (اي من ينتقد الطائفية السياسية) هو الوصول الي مجتمع خال من الطائفية ونابذ لها. قبل ان ندخل في حوار مع ما ذكره عبيدلي يلح هناك سؤال وهو لماذا اختلف الخطاب في هذا المقال عن الخطاب الاخر في مقاله الاخر وهو مشروع التيار المدني؟ الذي فرض هذا الاختلاف هو ان ما كان يراهن عليه العبيدلي في الساحة السياسية من جمعيات طائفية سياسية تستغل الدين أصبح غير مطروح الان لحل الازمة السياسية ونقصد هنا حل جمعية الوفاق الطائفية السياسية التي تستغل الدين. وكذلك سحب جنسية مرجعها الروحي والسياسي الشيخ عيسى قاسم فقد كان التيار المدني الذي كان يدعوا له يشمل هذه الجمعية الطائفية السياسية وكذلك الجمعيات الطائفية السياسية السنية وهما كما ذكرنا سابقا جمعيات ما (قبل المدنية، الوطنية). هنا عدل في خطابه بحيث أصبح يتحدث عن كلمة (مكوناته) الأكثر تجريدا من كلمة الجمعيات الاسلامية (الاسلام السياسي) حيث وردة على شكل جملة (مكونات العمل السياسي) وهنا المخادعة السياسية فتحت كلمة مكونات يبرز التقسيم والاستقطاب السياسي وليس فقط الاجتماعي وهذا هو المهم هنا الي طوائف متحاجزة ومتفاصلة ومتناحرة. وهذا ما يؤكده الواقع السياسي الذي تبلور ما قبل وما بعد احداث ١٤ فبراير. والذي يحاول عبيدلي ان يغظ الطرف عنه او يتجاوزه، وهو ان هناك (فيل ضخم) او (غوريلا) وهو الفيلم الهليودي الشهير والذي يمثل سحلية ضخمة تأتي من اعماق البحار الي المدينة لتعمل بها الخراب والدمار لكل ما هو جامد وحي، والتي تختفي في قاع المدينة وتضع بويضها في حواضن لكي تفقس بعد ذلك (غورلات) صغيرة. هذا ما نسميه (الطائفية السياسية) والتي يحاول عبيدلي ان يلغيها من قاموسه السياسي ويطالب الاخرين بإلغائها. ولكن هل هو استطاع ان يتجاوزها. بعد ان فشل مشروعه التيار المدني من ان يحتويها ويطالب بالحوار معها؟ فبعد ان أصدر النعوت (كذب سياسي، مخادعة سياسية) على الذين سماهم (حفنة من المثقفين السياسيين والمتقاعدين من العمل السياسي) وتحميلهم سلوك سكب الزيت على نيران الطائفية البغيضة ؟!!! هنا في هذا المقال يعود الي هذا (الفيل، غوريلا) (الطائفية) ويسميها مكونات العمل السياسي البحريني منقسمة (طائفيا) الي أربع فئات ؟! ويعود الي التقسيمة ذاتها (شيعية / سنية) ؟!!!
١- منطلق طائفي بحت يتوهم انه الأكثر ثورية منصبا نفسه بديلا وحيدا لباقي المكونات.
٢- الاخر منطلق من تناقضه الرئيسي مع الفئة الأولي -منطلق طائفي بحت).
ان العصبيات الطائفية -المذهبية المتفاصلة والمتحاجزة والمختلفة تحبس المواطن الفرد. (عبيدلي) في عالمها الخاص. وتحصره بين مكوناتها، وبين كونها مرجعية لوجوده (هي الجمعيات المعارضة الشيعية، الجمعيات المعارضة السنية) وبين وجوده الفعلي (مخادعة الذات سياسيا)، فيغدو مشدودا الي طرفين متناقضين. لكل منهما إغراءه ومقتضياته. حالة الحصر هذه هي ما تجعله متناقضا في ذاته (تقليدي في أهاب تقدمي وحداثي). وتمنعه من تأسيس ذاته خارج إطارها، بكل ما لديها من قوة على الساحة السياسية وتحول دون انطلاقه في المدي الكوني الرحب، فلا يتأسس لديه مفهوم الوطن ما دامت العصبية الطائفية -المذهبية وجمعياتها الطائفية السياسية تمثل مرجعية رؤيته ووجوده وهويته. بل الاحتمال الاكبر انه لايزال يريد ان يلعب دور (الوسيط) بينها وبين الحكم !! ذلك يكمن في اساس غياب فكرة الوطن، بمعني اقليم الدولة، والبيئة الطبيعية والاجتماعية والسياسية للشعب و (ليس الطوائف المسيّسة)، او التباسها وغموضها عند عبيدلي. واساس تعثر بناء او رؤية الدولة الوطنية كيانا ومرجعية فوقيين يتجاوزان الانتماءات الضيقة (الطائفية -المذهبية) فلا يمكنه ان يري ان الوطن الذي لم يتكون رهينة صراع العصبيات الطائفية -المذهبية على المغانم والنفوذ والسلطة. وذلك هو مغزى هدر المواطن او الفرد وهدر الوطن والوطنية وهدر المواطنة، ومن ثم هدر الدولة.
هنا تبرز المخادعة السياسية للذات والتي توقع عبيدلي في التناقض ما بين ادانته ورفضه لمن كما ذكر (يحاربون الطائفية وعلى وجه التحديد ذلك النمط منها الذي يرتكز الي الطائفية السياسية) وما بين الواقع الذي يقول بان هناك (فيل) ضخم يجول بوحشية في ارجاء الوطن (الطائفية السياسية) والذي يحاول عبيدلي ان يغض الطرف عنه! ولكن الواقع معاند ولا يمكن لوي عنقه بحالة (النكران) له؟ مما يجبر عبيدلي على ان يلتف عليه عبر (المخادعة السياسية) وان يعيد تشخيصه الي الأقسام الأربعة التي ذكرها في مقاله ؟! لماذا مثل هؤلاء المثقفين يناقضون نفسهم عبر المخادعة السياسية؟ ذلك لان العصبيات الطائفية -المذهبية والتي عززت في البحرين منذ السبعينيات عبر ما سمي بالترتيبات القبلية الطائفية، والتي عززت وللأسف في ظل المشروع الاصلاحي وأخذت بعدا طائفيا سياسيا حاداً، جمعيات طائفية سياسية شيعية يقابلها جمعيات طائفية سياسية سنية. والتي حاولت تطبيق مشروعها السياسي الطائفي من اجل تحقيق مشروع الدولة الطائفية المذهبية منذ احداث ٢٠١١. ان هذه العصبيات الطائفية المذهبية هي التي تحبس هؤلاء (المثقفين) او الافراد في عالمها الخاص، وتحصره بين (مكوناتها) وبين كونها مرجعية لوجوده وبين وجوده الفعلي، فيغدو مشدودا الي طرفين متحاجزين متفاصلين، متناقضين، لكل منهما إغراءه ومقتضياته. حالة الحصر هذه هي ما تجعله متناقضا في ذاته (تقليدوي في أهاب تقدمي وحداثوي) عبر الية (المخادعة السياسية). وتمنعه من الاستقلالية ومن تأسيس ذاته خارج إطارها، بكل ما لديها من قوة وتحول دون تجاوزه للطائفية السياسية وانطلاقة في المدي المحلي والكوني الرحب.
فلا يتأسس لديه مفهوم الوطن ما دامت الطائفية المذهبية السياسية هي مرجعية وجوده وهويته. وذلك هو اساس غياب فكرة الوطن، بمعني اقليم الدولة، والبيئة الطبيعية والاجتماعية والسياسية للشعب (وليس للطوائف)، او التباسها اي فكرة الوطن وغموضها عند هؤلاء المثقفين. واساس تعثر بناء الدولة الوطنية المشكلة التي تعاني منها البحرين اليوم ككيانا ومرجعية فوقيين يتجاوزان الانتماءات والولاءات الطائفة المذهبية الضيقة. لذلك يظل الوطن الذي لم يتبلور ويتكون رهينة صراع العصبيات الطائفية المذهبية السياسية على السلطة والنفوذ والمغانم. فقد كان مشروع الدوار يحاول ان يؤسس لعصبية طائفية مذهبية بحيث يكون لها (الغلب) على العصبيات الأخرى ودوّل مجلس التعاون الخليجي ؟! لكي يشكل دولة وكيانا ونظام حكم، الا ان مالا يفهمه هؤلاء المثقفين او الافراد ان هذا الحكم سيكون دولة العصبية او وطن العصبية او بالأحرى العصبية التي تختزل الوطن في كيانها، فتحول ما عداها الي اتباع. فلا يمكن فهم هذا الموقف من هؤلاء المثقفين الافراد الا على هذه الخلفية، وذلك هو مغزى هدر الوطن والوطنية، وهدر المواطنة، ومن ثم هدر الدولة.
ما هو الباعث الأعمق للممارسة السياسية والخطاب السياسي عند من ينظر للعصبيات الطائفية المذهبية او للطائفية السياسية او لأي استبداد؟ ان للاستبداد سيكولوجية تتمثل في العلاقة مع الذات وصورة الذات والعلاقة مع الاخر والاخرين. وهي سيكولوجية تشكل (الباعث) او الدافع الدينامي الداخلي الذي يدفع الي التسلط والتفرد، وتحدد طبيعة العلاقة وجدليتها مع المجتمع بمواطنيه وأفراده ومؤسساته. تتمثل هذه السيكولوجية كما يذكر د/ مصطفي حجازي في (نزوة السطوة والنرجسية والأنا المثالي) وخصوصا عند من يرى في نفسه في صورته انه القادر على لعب دور (الوسيط) بين الجمعيات الطائفية السياسية وما يسمي جمعيات وطنية ديمقراطية وبين النظام. فالنرجسية: رؤية مراويه للذات تنفي وجود الاخر. وتؤدي العلاقة المراوية مع الذات الي الغرق في صورة الذات والوقوع في سجنها. وحين يغرق المرء في صورة ذاته ينتفي الاخر ويزول الواقع الخارجي بكثافته المعتادة (الانقسام والاستقطاب الحاد الطائفي السياسي والذي تشكل بعد كارثة الدوار ولا زال). هنا تتحول صورة الذات الي (واقع) وحيد ويختزل كل طاقة العلاقة بالذات وحدها. حيث لا وجود الا لشخصه ولا لواقع غير واقعه الذاتي، وعند هذا الحد يتم التنظير لخطاب سياسي يفتح سجل الطوائف المسيّسة ومحاولة اعادة إنتاجها في الحياة السياسية او كما ذكر عبيدلي في المسرح السياسي، مما يفتح سجل هدر المواطن او الفرد والكيان الوطني على الهوية الطائفية ويبقيه على مصراعيه، فما دام لا وجود ولا اعتبار الا (للكيان النرجسي) الغارق في مرآته وسجين ذاته لا تعود هناك ضوابط لالتهام وجود الناس وكيان الوطن لتغذية صورة الذات التي تعكس مرآة النرجسية.
اننا اذن بصدد كيان واحد وحيد هو كيان الطاغية او ( الشخص ) ، فيتوسل ويستخدم عادة أقنعة ويلجأ الي مجملات خارجية شكلية ( من مثل ما ذكره عبيدلي في مقاله مكونات العمل السياسي البحريني منقسمة طائفيا الي اربع فئات رئيسية اولا قسم ينطلق من منطلقات طائفية بحته ، ثانيا قسم تناقضه الرئيس مع القسم الاول ، ثالثا قسم متفرج على القسمين الاول والثاني يشعل فتيل الطائفية ، رابعا حفنة من المثقفين السياسيين والمتقاعدين من العمل السياسي يسكب الزيت على نيران الطائفية ) يخفي وراءها نرجسيته التي تتجلي عندها في سعيه الدائب الي تازيل سلطته ( لعبه دور الوسيط ) وتوظيف كل الوسائل لخدمة هذا التأزيل الذي يجسد تحقق نرجسيته . انه يمثل وجه اخر من وجوه الهدر للإنسان والكيان. فلا يمكن فهم تقديس الطاغية (او الطائفية السياسية) وتأليهه وعبادته الا على هذه الخلفية، هذه الخلفية لا تلغي أثر التفاوت الاجتماعي وسوء توزيع الثروة وعوامل الانتاج بين الفئات الاجتماعية، ولا تلغي أثر الزبانة السياسية (دور الوسيط لعبيدلي) في تشكيل القوي وفي ميزان القوي، بل تلقي الضوء على البواعث العميقة للممارسة السياسية والخطاب السياسي.
والان لنحاول ان نجيب عبيدلي على سؤال المليون دولار !!!! الذي طرحه في مقاله في جريدة الأيام (لعل الخطوة الأولي على طريق علاج هذا الخداع الذاتي المتخفي هو الكشف عن مخادعة الذات ومحاولة الإجابة على سؤال المليون دولار، من هو المستفيد من حالة مخادعة الذات السائدة؟) الملاحظة الأولي على هذا السؤال الذي يحمل عدة معاني او نعوت الاتهام للآخر (حفنة من المثقفين السياسيين او المتقاعدين سياسيا) بان لديهم مآرب اخرى او مصالح اخرى او استفادة اخرى وبمكر عبيدلي لا يحدد من هم سوف يستفيدون (النظام، السلطة، الدولة) او (الجمعيات الطائفية السياسية او كما يسميها هو الاسلامية) او (جهات إقليمية، دولية) الخ. ولكي نرفع الغمة وحالة الحصر التي يعيشها عبيدلي نقول له ان المستفيد الاول هو الشعب (ووحدته الوطنية) ليس انطلاقا من موقع (طائفي) ولا (شعبوي) ولا (تقليدوي تقدمي حداثوي) الخ. وذلك عبر نزع القناع عن تواطآ العصبيات والأصوليات والاستبداد والذي يقوم على هدر الفكر والوعي والطاقات وهو (الشر والهمجية) لأكثر انواع الهدر للمواطنين والافراد، وأكثرها تأثيرا في حياة المجتمعات وقدرتها على الحضور في عالم النمو المتسارع وانعدام اليقين والفوضى الخلاقة. والأكثر تأثيرا من ثم في تحديد مستقبل المشروع الاصلاحي وتحت مرجعية ميثاق العمل الوطني. على اعتبار المستقبل هو ممكنات الحاضر. فلا يمكن او استحالة ان يتحقق استقلال (ذاتي للمواطن او الفرد) والجماعات السياسية المدنية الديمقراطية، الا بالتحرر من العصبيات الطائفية المذهبية المسيّسة ومن القبليات والأصوليات والمسبقات والمرجعيات والمراجع (الدينية) المغلقة والحقائق الثابتة والمعتقدات الماوراء الطبيعة الغيبية. فان مضمار السباق والتنافس بين الامم والشعوب هو مضمار انتاج المعارف بغية السيطرة على الذات والمصير عبر فهم التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية والتي هي محور وعي وعمل هذا المواطن او الفرد.
وكما في موضوع اخر وتحت عنوان التطور البيولوجي للعقل والسلوك الديني من منظور الدراسات المستقبلية، والتي اثبتت على الدماغ ونشاطه ان (تشجيع الفكر الحر بالحوار والنقاش يطلق مادتي الأندورفين والانكيفالين والدوبامين في الدماغ، وهم يولدون حالة من النشوة والحيوية والاستمتاع والدينامية. وكذلك فان التحديات الفكرية وطرح المشكلات التي تحتاج الي حل وتنشيط التفكير التحليلي النقدي (المستقل) يساعد على زيادة تكوين الشبكات العصبية في الدماغ من خلال نمو الشجيرات التي تربط بين الخلايا العصبية، وكلما زادت التحديات الذهنية ومعها النشاط المعرفي نمت هذه الشجيرات وتوفر للدماغ شبكات عصبية جديدة تزيد من كفاءته. وعلى العكس من ذلك فان التزمت والحجر والاقصاء والاتهام (كما يذكر عبيدلي الكذب السياسي، المخادعة السياسية، سكب الزيت على نيران الطائفية، إشعال فتيل الطائفية) وكذلك بالتحريم والتجريم والاتهام بالطائفية! للحفنة من المثقفين السياسيين او ما يسميه المتقاعدين سياسيا وذلك عبر الية التسطيح من قبل عبيدلي وفرض السؤال الواحد سؤال المليون دولار يراد له جواب واحد الصحيح من وجهة نظره. كل هذا يؤدي الي تصليب الدماغ وتردي كفاءته من خلال تقليص تشبيكاته العصبية الناتج من قصور نمو الشجيرات العصبية وتدهورها، هذا كما يذكره د/ مصطفي حجازي في كتابه (الانسان المهدور) دراسة تحليلية نفسية اجتماعية الصادر في ٢٠٠٥ عن دار المركز الثقافي العربي. ان التزمت والحجر على الفكر بالتحريم والتجريم والاتهام وباستخدام النعوت السلبية او بالتكفير والتخوين عند الجمعيات الطائفية السياسية، يتسقان مع طبيعة (العصبية) ويكملان مسعاها الذي لا ينقطع في تطفيل المواطنين والافراد، اي إبقائهم أطفالا محتاجين الي رحم العصبية وثدييها، اي الي حمايتها ورعايتها كحاجة اليتيم القاصر الي وصي وولي.
لا نملك هنا الا ان نوافق مصطفي حجازي في رؤيته ان هناك مأزقا بنيويا في عالم الهدر الفكري عند المثقفين (يجعل التحريم والتجريم والتطفيل) قوي تتوالد وتعيد انتاج ذاتها في الممارسة الفعلية. كما يريد لها عبيدلي ان يعيد انتاج الجمعيات الطائفية -المذهبية ذات العصبية على المسرح السياسي. إذا نحن الان في البحرين لسنا بصدد تطور او تأخر في الديمقراطية او في الهامش الديمقراطي والانفراج السياسي وإنتاج الفكر والمعرفة والذين يتطلبان او يتعين استدراكهما، بل نحن (كل الوطنيين الديمقراطيين العقلانيين في البحرين) بصدد التصدي لهذه البنية ذاتها وتغييرها من الأساس. وحتى يتحقق ذلك وتخرج البحرين من قبضته ستظل ازدواجية الشعارات والممارسة كما نجدها عند عبيدلي وغيره والذين أصبحوا ظاهرة اجتماعية في البحرين ستظل هذه الشعارات والممارسات والمشاريع سيدة اللحظة وسيظل الاستبداد السياسي والعصبي والأصولي في سعادته.
اذن ما هو سر او جذر العصبيات الطائفية المذهبية والذي يلتف على عنق المواطن او الفرد؟ انه القهر والهدر كما جاء في عنوان مصطفي حجازي (الانسان المهدور)، فالقهر هو فقدان السيطرة على المصير ازاء قوى الطبيعية وقوى التسلط في ان معا. اما الهدر فهو أوسع مدى، بحيث يستوعب القهر الذي يتحول الي إحدى حالاته، ويراوح من حيث الشدة، بين هدر دم الاخر، وبين الاعتراف المشروط بإنسانية الانسان. بل بمكانة المواطن او الفرد وقيمته، كما هو حادث في علاقة العصبيات بأعضائها، ان اعتراف العصبيات بأعضائها هو من قبيل الاعتراف المشروط بإنسانية الفرد بل الميل هنا الي اعتباره اعترافا مشروطا بعضوية المواطن او الفرد في العصبية واعترافا بمكانته، وفق تراتبية الاحترام وعلاقات التبعية في بنيتها الكهنوتية (الهرمية) لان الاعتراف بإنسانية المواطن او الفرد اما ان يكون تاما، مبدئيا ونهائيا، فينتفي القهر والهدر واما لا يكون. اذ القهر والهدر يتناقضان مع الاعتراف بإنسانية الانسان. يتسع نطاق الهدر فيشمل هدر الفكر وهدر طاقات الشباب ووعيهم وهدر حقوق المكانة والمواطنة وصولا الي الهدر المتبادل في علاقات الصراع الطائفية المذهبية الثنائية. ويتخذ طابع تحويل الانسان الي اداة لخدمة أغراض العصبيات الطائفية المذهبية او الاستبداد. ان وصف جميع العصبيات الطائفية المذهبية (شيعية / سنية) بالهمجية هو من قبيل حكم الواقع لا من قبيل حكم القيمة، انطلاقا من التداعيات التي نتجت عن احداث ١٤ فبراير فالسيناريو كان سيكون كما هو الحادث في العراق وسوريا والذي تمخض عنه الحروب والنزاعات العرقية والطائفية المذهبية واستراتيجيات السيطرة والهيمنة والنهب.
ان العصبية علة الهدر، والهدر علة التسلط والاستبداد، وما من عصبية لا تداخلها اصولية. فالعصبية تحول دون ان يتعرف المواطن او الفرد ذاته في الاخر الا بصفته قريبا الي هذه الدرجة او تلك، قرابة طائفية -مذهبية، اذ تقسم العصبية العالم عالمين؛ عالم الأقرباء وعالم الغرباء او الأغراب، ومن ثم فان الفرد يتعرف ذاته في محمولات الاخر، لا في الاخر ذاته، فتغدو العلاقة بينهما علاقة محمولات بمحمولات، لا علاقة ذات بذات (علاقات عربي بعربي ومسلم بمسلم وقومي بقومي واشتراكي باشتراكي). فمن الصعب ان يتعرف المواطن او الفرد ذاته الانسانية في الاخر الا بعد تجاوز المحمولات (بحريني شيعي بحريني سني قومي شيعي قومي سني، اشتراكي شيعي اشتراكي سني!) واحدا تلو الاخر وصولا الي الذات الانسانية، فلا تعود المحمولات عقبة في طريق التواصل الإنساني، ذلك ان التواصل طبيعة أصيلة في الانسان، علتها النقص والاحتياج المتبادل، والتنافر عارض يرد الي ملابسات الحياة وظروفها والي طبيعة النظام الاجتماعي. لابد ان يعي المواطن او الفرد ان القهر والهدر الذي تمارسها العصبيات الطائفية المذهبية هما العقبتان الأساسيتان في طريق الاستقلال الذاتي للمواطن او الفرد، والعقبتان الأساسيتان في طريق المواطنة. فهمًا نقيض تمكين المواطن او الفرد واقتداره على اختيار ذاته وتحقيقها وسيطرته على مصيره، لأنها علة التسلط والاستبداد، التي تظهر بوضوح في معلولها، فليس بوسع المتسلط والمستبد ان يكونا كذلك لولا قهر الانسان / الفرد وهدره. كما يكتب مصطفي حجازي (فحين يحدث القهر في علاقة الاستبداد او اي علاقة تسلط وإرغام فانه يترسخ ويعيد انتاج الهدر ذاته، ومن خلال اليات الدفاع التي يلجأ اليها الانسان المهدور في قهره، أبرزها (التماهي بالمتسلط) في سلوكه وأحكامه) فمنذ تشكيل جمعيات طائفية سياسية مذهبية في البحرين مع انطلاقة المشروع الاصلاحي او لنقل عصبيات طائفية مذهبية أصبح مؤكدا ان علاقات التسلط والاستبداد في هذه الجمعيات هي العلاقة السائدة وللأسف حدث ذلك مع الجمعيات التي تسمي نفسها الجمعيات الوطنية الديمقراطية.
الهدر والقهر على الصعيد السياسي هما محتوي علاقات القوة العارية ( قوة العصبية الطائفية السياسية ) التي تؤسس التسلط وتعين اليات السيطرة والهيمنة واستراتيجياتها كما تجلت في قوة الجمعيات الطائفية السياسية في الجانب الشيعي سواء الشرعي او غير الشرعي منها ، والتي تكثفت في الدوار حول مشروع واحد وهو ( باقون حتى يسقط النظام ) قابلها تكثف قوة الجمعيات الطائفية السياسية في الفاتح وحول شعار ( ان عدتم عدنا ) وهنا برز على السطح ( الشرخ الطائفي ) ( الفتنة الطائفية ) ، وفي ضوء ما تقدم وما نتج عنه من تداعيات لأحداث ٢٠١١ وحتى الان ، يبدو اي حديث للمواطن او الفرد عن المواطنة والوطنية و ( الوحدة الوطنية وآفاقها وهو عنوان الندوة التي أقيمت في المنبر التقدمي والذي علق عليها المنتدي بانها ليست ندوة لان المنتدي هو فرد واحد ؟! وفضل ان يسميها محاضرة او حوار) وكذل الحديث للمواطن او الفرد عن المجتمع المدني والدولة السياسية، ناهيك عن الديمقراطية، هي نوعا من ترف فكري لا طائل تحته ان لم ينطلق من الاعتراف بإنسانية الانسان وتساوي جميع (البشر) نساء ورجال في الكرامة الانسانية، وان لم يتأسس على مشروع تحقيق (الذات الانسانية للفرد والمجتمع) بعيدا عن العصبيات الطائفية المذهبية. ذلك ان الانسانية هي اساس (الوطنية والوحدة الوطنية) المنشودة ورافعتها ومحتواها والضمانة الاخلاقية لعدم تحولها (الوطنية) الي نزوع فاشي كما حدث في لبنان (حزب الله) العراق (حزب الدعوة) والبحرين الجمعيات الطائفية السياسية وائتلاف ١٤ فبراير في حال نجح مشروعهم الطائفي المذهبي بامتياز. فلا يجب ان يغيب عن تفكيرنا أمراض (الوطنية) وعاهاتها والتي اصبحت بعد فشل مشروع الدوار الكارثي القناع الذي بدأت تستخدمه الجمعيات الطائفية السياسية التي تستغل الدين بالرغم من طرحها (تمتين الإخوة الاسلامية بعد الوحدة الوطنية) وكذلك تستخدمه الجمعيات التي تسمي نفسها جمعيات وطنية ديمقراطية كالديكور لدكاكينها. ذلك ان (الوطنية عصبية سياسية حديثة)، تعصب الجسم الاجتماعي، وتشد أجزاءه بعضها الي بعض، مثلما تعصب الجملة العصبية جسم الانسان، وتحشد قواه لنصرة (الصديق) وايقاع الأذى ب (العدو) وتقسم العالم الي عالمين عالم الخير وعالم الشر (محور الخير ومحور الشر) (محور الموالاة ومحور المعارضة). مجد الأمة او مجد الطائفة او مجد الحزب لا يثير اي إعجاب ولا يشعر باي اعتزاز إذا قاما على قهر الانسان وهدره وامتهان كرامته. وحرية الوطن واستقلاله في ظل تبعية المواطنين وعبوديتهم واذلالهم. لا بد ان نعارض التضحية المجانية بالإنسان (المواطن او الفرد) في سبيل اي هدف او غاية وخصوصا إذا كان غاية انتزاع السلطة وتسليمها الي الجمعيات الطائفية السياسية وميلشياتها والذين يستغلون الدين. وان نعارض أكثر من ذلك مفاهيم الجهاد والبطولة والشهادة. المواطن او الفرد الإنساني فوق الأمة وفوق الطائفية والمذهبية واهم من مجدها وعظمتها. وحرية المواطن او الفرد واستقلاله اهم من حرية الوطن واستقلاله، لان الاخيرة لا تكون من دون الأولي سوي غطاء للتسلط والاستبداد. اوطان الطائفية السياسية او اوطان العبيد ليست أوطانا، ولا يمكن ان تكون حرة ومستقلة.
لا بد ان نعارض العنف، بجميع اشكاله سواء جاء تحت غطاء (سلمية) او (ثورة ١٤ فبراير). لا مستقبل للإنسان مع استمرار العنف والارهاب والنزاعات. هنا يجب اعادة التفكير في الخيارات الوطنية على انها خيارات الشعب في البحرين، لا خيارات المراجع وعلماء الدين او أذرعهم السياسية او خيارات الجمعيات المسماة وطنية ديمقراطية وهذ الرسالة التي حاول غسان شهابي ان يوصلها للذين كانوا موجودين في مقر المنبر التقدمي والذين ارتبكوا عند سماعهم بهذا الرأي الصادم لهم والذي يسحب البساط من تحت اقدامهم ليعيد بسطه للمواطنين والافراد، ذلك ان الوطنية لا تفرض على البحرينيين الا ما يفرضه البحرينيين على أنفسهم، ولا تفرض على اي فرد الا ما يفرضه على نفسه.