يُقال ان من يرغب عن أمر ما، لا يعجز عن اختلاق الذرائع والحجج لتسويغ رفضه وتبرير احجامه، ربما هذا هو حال أنظمتنا العربية مع التغيير الديمقراطي، فهو مرفوض ودونه الأبواب موصده لأسباب يعاد تجديدها وتكرارها كحكاية إبريق الزيت، مرة بحجة المخاطر الخارجية وضرورات التصدي للمؤامرات التي تحاك للنيل من أمن البلاد واستقرارها ومرة بذريعة الخصوصية العربية أو الإسلامية وحاجتنا إلى نمط فريد من الديمقراطية لا يتفق مع ما يجري، برأيهم، استيراده من أشكال الديمقراطيات الغربية،
ومرة ثالثة عبر تضخيم ما يحصل من أخطاء أو تجاوزات وتوترات في مناخات الحرية والقول ان مجتمعاتنا لا تستحق الحرية أو لا تحسن استخدامها!!
هو أمر بديهي أن يخشى كلّ عاقل ويتحسب مما قد يرافق عملية التغيير الديمقراطي من ارتباكات اجتماعية وعدم استقرار مؤقتين، وان يرفض سياسة الاضطراب والفوضى وانفلات قوى المجتمع من عقالها على غير هدى، ولكنه لن يكون بعاقل إذا استكان لهذا التخوف، وانحرف نحو تسطيح الأمور والدفاع الأعمى عن الواقع القائم بحجة الأمن والاستقرار، وتبرئة الأنظمة من دورها الرئيس في وضع مجتمعاتنا أمام مثل هذا الاختيار الخطير، أو في ما وصلت اليه أحوالنا وما نكابده ونعانيه، وبتالي من السذاجة أن لا نتعلم من نحن الماضي ودروسه كي ننأى عن عثرات وأخطاء دفع ثمنها باهظا، وتحديداً في ان نتذكر دائماً وأبدا، أن أكبر عنوان لتخلفنا هو عندما ذهبت مجتمعاتنا – منذ فجر الاستقلال حتى يومنا هذا – إلى اعتبار التغيير الديمقراطي شعارا غريباً عن حقوقنا ومصالحنا وثقافتنا العربية، واختارت معاداته ومواجهته بأنظمة شمولية، لا تؤمن بالتعدد السياسي، والحوار والتشارك، بل تمارس، على النقيض من ذلك، الجبروت والطغيان والظلم. وبالنتيجة فإن ثمة كارثة حقيقية تنتظر المجتمعات العربية في حال أحجمت عن الانتقال من عالم الاستبداد إلى الديمقراطية، ولا يستبعد أن يفضي تأجيل هذا الاستحقاق الى انفجار الأزمات المتراكمة بصورة مريعة، وان تسفر حالة الممانعة عن الإصلاح والتغيير إلى انهيارات واسعة أو تفكك الدولة وتشرذمها وتفسخ المجتمع وتذرره.
والحقيقة ان احتمال حصول بعض الصراعات الهامشية أو الاضطرابات في سوية الاستقرار الأمني ليس ابن التغيير الديمقراطي، بل نتيجة طبيعية لما راكمته سنوات طويلة من القمع والمركزة الشديدة، ونجاح الأنظمة الدكتاتورية الشمولية في تدمير المؤسسات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية، وقتل روح السلام والتآخي والمبادرة لدى الناس، وتغريبهم عن إدارة حياتهم وحماية حقوقهم .. هذا فضلاً عن سعيها المستمر لإحياء شبكات من المصالح والارتباطات العشائرية والقبلية أو الدينية أو المناطقية، كمحاولة للطعن بوحدة المجتمع السياسية ولاستيلاد النزاعات المختلفة، وتأليب فئات ضد فئات أخرى على أمل تفريق الناس وإكراههم على اختيار الأمن والاستقرار بدل مطالب الديمقراطية والحرية.
وبعبارة أخرى، علينا أن نعي جيداً أن ما تعانيه المجتمعات الآيلة للتحول الديمقراطي اليوم من بعض الاضطرابات ومن صعوبات وارتباكات يبقى لحظة عابرة صوب أمل ووعد بمجتمع صحي معافى. ومثل هذه الصعوبات، هي صعوبات مفسرة واختبارات مفهومة لمجتمعات حطمها القمع وادمنت السلبية والاتكال، وأن لا تفضي إلى هز الثقة بجدوى الحرية أو زعزعة الإيمان بالموقف الصائب من حالة الاستبداد وما خلفته السلطات وأساليبها القمعية والإقصائية، من تشوهات بنيوية وأمراض مزمنة هي المسؤول الريّس عن إعدام فرص سلاسة وسلمية التغيير الديمقراطي وعن حصول بعض الاندفاعات العنيفة والتوترات غير المبررة !!!..
ثم لنسأل أنفسنا كم سيكون مكلفا وضارا لنهضة المجتمع ولمستقبل اجياله، التخويف من التغيير والدعوة للحفاظ على الركود القائم؟؟! أو كيف نصل بالمجتمع إلى اكتساب الأهلية المنشودة للتمتع بحرياته وتوفير النضج السياسي المطلوب، إذا كان مفقودا حقاً، ما دام ثمة إصرار على حق الوصاية عليهم بحجة أنهم دون سن الرشد. ثم كيف يتناسى من رفعوا بطاقة ممانعة في وجه الخيار الديمقراطي، متذعرين “بالعقلية التقليدية وبالخصوصية الثقافية المتخلفة” في مجتمعنا، انها العقلية ذاتها والثقافية ذاتها، التي قبلته واحترمت قواعده قبل عقود، هذا ان لم نقل أنها كانت وقتئذ أكثر تخلفا!.
ولنفترض جدلاً أن ما في مجتمعنا المتخلف من نزعات عشائرية وطائفة وأثنية قد يحرف الديمقراطية عن مسارها، لكن يحق أن نتساءل بالمقابل، الا تنمو هذه النزعات بصورة أوسع وبطرق أكثر مرضية في ظل غياب الديمقراطية؟! والا يشكل تضييق هوامش العمل السياسي وكبح حرية الرأي وإضعاف الحراك المدني، عوامل خفية وخطرة في أن، تدفع الإنسان إلى اصطفافا متخلفة غير سياسية، وتضطره إلى الاحتماء بأثنيته أو طائفته أو عشيرته وإعادة إنتاج تفكيره ومصالحه على مقدار مصالحها وحساباتها الضيقة.
وهنا لا بدّ من تذكير المتخوفين من الفوضى، بأن التحول الديمقراطي عندما يتم بصورة متدرجة وسلمية هو نقيض للاضطراب والفوضى، فهو لا يدعو إلى الاستهتار بالدولة والتفريط بمؤسساتها بل على العكس يشدد على دورها بما يصون العقد الاجتماعي ويحفظ التوازن بين حريات الناس وحقوقهم وواجباتهم، وبعبارة واحدة، فإن نجاح الديمقراطية يعني نجاح بناء الدولة الديمقراطية، بصفتها تعبيراً صحيحاً جامعا عن كل مكونات المجتمع واطيافه على اختلاف انتماءاتهم العرقية ومعتقداتهم الدينية.
والنتيجة، أن الديمقراطية لا تعني الفوضى والاستهتار بأمن المجتمع وبدور الدولة ومؤسساتها وبحكم القانون، بل هي تعني أكثر ما تعني مفهوم الدولة الديمقراطية التي تهتم، إلى جانب توفير المساواة والحقوق والحريات، بحفظ الاستقرار والنظام وسيادة القانون، وبالتالي فإن تحصين المجتمع من مظاهر التفكك والتنافر والصراعات التي قد ترافق انبعاث الحريات والتعددية الخصوصيات، يتطلب تمكين الدولة الديمقراطية ودعم مؤسساتها العمومية، لتغدو هذه الأخيرة المكان الأمثل لإدارة الخلافات سلمياً وحفز روح التفاهم والتوافق والتعاضد بين مختلف الأطراف، والثقة بالدولة الديمقراطية ومؤسساتها ودورها العمومي الضابط والمحفز هي خير ضمان أمن البلاد ومسار تطورها وتقدمها، وهي بهذا المعنى ضرورة موضوعية لبقاء المجتمع موحداً وضمان حقوق أفراده ومشاركتهم، وغيابها يعني انهياره أو زواله خاصة حين يتم الطعن بوظيفتها الأولى حسب ماكس فيبر وهي احتكار القوة المسلحة والعنف الشرعي لضمان أكبر قدر ممكن من الأمن للجميع ولمواطنيها.
ان التغيير الديمقراطي يعني في أهم وجوهه، أن القابلية لتفعيل دور الدولة الديمقراطية التوحيدي والعمومي ستبقى قائمة مطلوبة وما يزيد من فرص النجاح أن يحضر المجتمع المدني بمختلف فئاته وفعالياته ليمارس دوره في الحماية والرقابة، وكقوة ضاغطة ضابطة تضع ثقلها في الميزان لصالح خيار الاحتكام للمؤسسات بما في ذلك محاصرة الفلتان الأمني والاندفاعات العمياء.
العلاقة بين ضرورتي الدولة والديمقراطية تستدعي توضيح المسافة أيضاً بين مفهومي الدولة والسلطة، فإذا كانت الدولة كمؤسسات عامة تحتكم إلى الدستور والقوانين المرعية وتصاغ هيكليتها وعلاقاتها مع المجتمع على أسس ديمقراطية تميل إلى الحياد من الصراعات الاجتماعية وتسمو بمهمتها نحو العمل على تنظيم العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية دون التدخل في محتوى أو فحوى هذه العلاقات، فإن السلطة هي اليد القابضة على الدولة والتي تعمل لإدارتها بما ينسجم مع مصالح الفئة التي تمثلها، وأحيانا تنجح مع تعطيل العملية الديمقراطية في تسخير كافة مؤسسات الدولة وقواها لصالحها، وعليه يتضح أن العملية الديمقراطية التي تضمن تداول السلطة وتناوب القوى المتصارعة في إدارة الدولة ومؤسساتها تساعد تدريجياً على تحرير الدولة من أية التزامات مسبقة لصالح طرف على حساب الأطراف الأخرى وتنحو بها نحو التعويم والحياد أكثر فأكثر. وبكلمة أخرى لا أمل في نجاح العملية الديمقراطية حين يكون كلاً منا مؤمنا إيمانا مطلقاً بمشروعيته ويسعى بمختلف الوسائل للسيطرة على الدولة ومؤسساتها ولنصرة سياساته وحساباته الضيقة دون اعتبار لمصالح الآخر وحقوقه، وحين توجد فئات وقوى تتوهم بأن ما تقوم به هو الصائب والصحيح، لا هاجس لديها لمعايرة مواقفها أو مراجعة خطابها وأساليب عملها، تجنح نحو التخفيف من نتائج وآثار ما تقوم به وتلقي المسؤولية على الآخر مبرأة نفسها من أخطاء ترتكبها ومن هيجان إقصاءي ينطوي على قدر كبير من التضليل المقصود بأن حسم الصراع مع بعض إخوته وأهله سوف يجلب له المن والسلوى!!.
ونعترف اخيراً أن الديمقراطية ليست مسحة سحرية وراية وشعارات خلابة، بل هي طريقة في الحياة وأسلوب لتسيير المجتمع يتضمن قيماً واليات ومؤسسات، وتاليا لا يمكن الحديث عن الانتقال إلى الديمقراطية دون تعميق القيم الموجهة لسلوك المواطنين في احترام التنوع والاختلاف وأساليب التوافق وإدارة الصراعات السلمية ودون توافر الآليات المساعدة على نشر هذه القيم والمؤسسات التي عبرها ومن خلالها تمارس هذه الطريقة في الحياة. ما يعني ان الانتقال إلى الديمقراطية في مجتمعاتنا لا يتحقق بمجرد توفير بعض الحريات والقيام بانتخابات برلمانية، بل هو عملية تاريخية تتم في فترة زمنية غير قصيرة والطبيعي أن تشهد في بعض مراحلها ارتباكات وصراعات حول السلطة وإصرار قوى معينة على تخريبها وايقافها والارتداد عنها.
ثمة في الديمقراطية قوة لا توجد في أي نظام سياسي آخر، فالإنسان غايتها وهدفها، وهي تتوجه اليه بوصفه المحرك الرئيس لكل تحد وتطور وتعول عليه لمحاربة التخلف ولتعويض حالة العجز والقصور أمام تحديات البناء والتنمية وفي مواجهة توازن قوى يميل بشكل كاسح لصالح أعدائنا وسالبي حقوقنا، وبالتالي من المقلق أن نخيف الناس ونجهض توق مجتمعاتنا العربية إلى التغيير الديمقراطي، بينما يجب على العكس أن نشجعها على أن تتمسك به بالأسنان والأظافر، وأن تزداد يقينا بأنه دون نصرة الحريات واحترام التعددية وحقوق الإنسان لن تستقيم أمورها وسوف تضل الطريق الوحيدة والناجعة لمعالجة ما صارت اليه أوضاعها من ضعف وتخلف وانحطاط.
منذ عقود أجمع المثقفون العرب على أن التفوق العسكري والتكنولوجي الصهيوني المدعوم امريكيا ليس السبب الرئيس لما سمي نكسة حزيران المريرة عام ١٩٦٧ بل هشاشة البيت الداخلي الذي نخره الفساد والقمع والاضطهاد، وخلصوا إلى أن بناء الدولة الديمقراطية وتحرير إرادة الإنسان هما الأساس الحيوي لمواجهة اثار الهزيمة والتصدي للتحديات والأخطار المحدقة، وايضاً للنهوض بالمجتمعات العربية من تخلفها، ولعل المفكر ياسين الحافظ خير من أطلق السؤال الكبير حول أسباب الهزيمة وأن المجتمع العربي هُزم لأنه مهزوم هو بالذات “حيث تدان التعددية ويعتبر كل فريق نفسه مالكا للحقيقة ويصبح السجن المكان الوحيد للخصم، ويوضع القانون على الرف أو يصبح غلافا لشهوة حاكم أو مصلحته”!!..
أهمل الدرس وأهملت الديمقراطية واستفردت الأنظمة الشمولية والدكتاتورية بمنصب الوصي على الوطن وحامي حمى المشروع القومي، وتحت هذه الحجج الذرائع تم سحق رواد النهضة ودعاة الحرية وكانت النتيجة البؤس والتردي الذي نعيش، فهل تنجح السلطات العربية اليوم تحت عنوان “الحفاظ على الأمن والاستقرار والتصدي للمؤامرات الخارجية” في اعتقال الديمقراطية من جديد وإقصاء دعاتها؟!.