حول مقال الكاتب والامين العام السابق للمنبر التقدمي. (خليل يوسف)
جمعياتنا وحالها وما أدراك ما حالها، والذي تم نشره في جريدة الايام.
ما يكتبه (لقد حان الوقت، حان من زمن بعيد ان يوضع واقع الكثير من جمعياتنا ومؤسسات ومنظمات المجتمع المدني على بساط البحث. هذا الملف قد يكون معقداً أكثر مما نظن في شأنه تفرض بعض التساؤلات القلقة. لماذا هذا الوضع الذي اصبحت فيه الكثير من الجمعيات والاتحادات ومؤسسات المجتمع المدني تعيش الهواجس والتعقيدات والمصاعب والمشاكل والانقسامات وكل ما يدفها الي المجهول؟).
كل ما تم كتابته في هذا المقال هو توصيف ووصف عام من دون ان يلامس كل هذه الظواهر اي ما يتشكل منه المجتمع المدني التي ذكرها في مقاله.
من الطبيعي أن يحيط بمفهوم المجتمع المدني كثير من الارتباك والتشوش بسبب اختلاف المنطلقات ذات الطابع الايديولوجي، وبسبب تعدد الآراء حول استعماله. (وهذا هو المطب الذي وقع فيه كاتب المقال). هناك جدل دائر الان حول المجتمع المدني عامة في ثلاث توجهات:
١- التوجه الذي يساوي بين المجتمع المدني والدولة ويجد أصله عند هوبز: (لا يمكن للقانون ان يكون غير عادل، القانون تشرعه القوة ذات السيادة، وكل ما تفعله تلك القوة مبرر ومطلوب.
٢- التوجه الذي يجعل من المجتمع المدني مجالاً مستقلاً عن الدولة، منحصراً في (الجماعات الاهلية) وروحها التضامنية عند لوك، من خلال العقد الاجتماعي: (البشر مستقلون متساوون، وليس لأحد ان يلحق الأذى بهم، وبحياتهم وبصحتهم وبحريتهم او ممتلكاتهم) (ونعتقد ان كاتب المقال يقع في هذا التوجه وكذلك في التوجه الاول).
٣- التوجه الذي يجعل المجتمع المدني ومؤسساته تشغل حيزاً بين علاقات الاقتصاد (علاقات السوق) والقوة السياسية (الدولة) عند غرامشي: (التغيير لا يمكن ان يشعل فتيله الازمة في الاقتصاد فقط، وانما المجتمع المدني يجب أن يواجه ويتحول بشكل مستقل عن القاعدة الاقتصادية. وهنا ليس للمجتمع المدني علاقة بالديمقراطية، (وانما بالعالم والقوى السائدة فيه التي تناهض الديمقراطية) وليس كما يرى كاتب المقال (وجعلوا عدد لا يستهان به من جمعياتنا السياسية ومؤسسات مجتمعنا المدني تعيش اوضاعاً يرثي لها جعلها ميتة سريرياً (لا دعم لا مساندة من اي نوع) ؟!) وهذا ما يريده من القوى السائدة)؟
أن التوجه الثالث لغرامشي هو الاقرب الي الفهم الواقعي للمجتمع المدني الامر الاخر هو أن هناك تلازماً عضوياً بين الدولة والمجتمع المدني، اذ ان المجتمع المدني لا يقوم الا بمواجهة الدولة وباعترافها به. وليس المقصود بذلك أن اعتراف الدولة بالمجتمع المدني يعطيه طابعاً رسمياً وتمثيلياً (اي يمثل الافراد والجمعيات ويعمل بالنيابة عنهم) كما يرى كاتب المقال)، بل أن المجتمع المدني ومؤسساته تتعرض باستمرار الى محاولة الدولة اخضاعها او اضعاف استقلاليتها (اضعاف روح الاعتماد على النفس والتضامن الاجتماعي) والمجتمع المدني بدوره ليس مجتمعاً ديمقراطياً او يمتلك توصيفاً ديمقراطي بالضرورة، بل أنه يمثل قوى معادية للديمقراطية كما هو واضح من كلام الكاتب (ان العزوف نتيجة وليس سبباً ولا بتغييب الديمقراطية التي تطالب بها هذه الجمعيات والتي هي مفقودة او مشوهة في تنظيماتها. ولا بسبب هيمنة البعض على ادارات امور هذه الجمعيات وتكريس الشللية فيها) طبعاً هو يطالب بالشفافية ولا يذكر لنا من هي هذه الجمعيات؟! طبعاً لم يذكر لنا أيضاً جمعيات الاسلام السياسي الظلامية؟!
ديناميكية العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني وما يحدثه من توتر بنائي بينهما.
لا يمكن ان يقوم المجتمع المدني الا من خلال التنظيمات المجتمعية وتعبيراتها السياسية والثقافية. وهذه التنظيمات تشمل الجماعات المختلفة ذات (المصالح المتعارضة) والمتصارعة ضمن إطار العشوائية والفوضى. مما يخلق نوعان من التعارض (وليس التماثل كما يراه كاتب المقال بين الدولة والمجتمع المدني).
التعارض الاول: هو في المجتمع المدني حيث يدفع في الحالة الاولى الي احياء روح المصلحة الفردية، وفي نفس الوقت يثير في الجماعات روح التضامن والتكافل الاجتماعيين، بحيث تصبح (الحياة الخاصة) موضوعاً (للحياة العامة) فهدف الحركات الجمعية هو حماية حريات الافراد وحقوقهم، لمصلحة الجماعة وروحها التضامنية ولكن في. الوقت نفسه (تخضع الافراد)، عن طريق تقييد حرياتهم وحقوقهم، لمصلحة الجماعة وروحها التضامنية ويتخذ هذا التعارض شكل توتر بين (الفردية والجماعة) اي بين الانتماء الى الجماعة (او الجمعية، المنظمة) اي الهوية، وبين حقوقهم في العدالة وفي توزيع المنافع (المساواة): الحرية الفردية مقابل العدالة الاجتماعية والتضامنيات تعبر عن نفسها عن طريق القبيلة او الطائفة او النقابات او الجمعيات.
التعارض الثاني: يتعلق (بالدولة)، هو في وظيفة الضبط الاجتماعي (التحكم والسيطرة)، فتمارس الدولة وظيفتها في الضبط الاجتماعي عن طريق مؤسسات المجتمع المدني، بينما تسعى مؤسسات وحركات المجتمع المدني الي مقاومة اخضاع الدولة لها والى حماية (الحيز) الخاص لحياة الجماعة والافراد. ولكن في فترة المشروع الاصلاحي تم اخضاع المجتمع المدني من قبل الدولة والسلطة المركزية (وخصوصاً بعد احداث الكارثة في ٢٠١١) يطلق عليه (نموذج الطاعة) وكان من نتيجة ذلك القبول بتسيد الدولة على المجتمع واختراقها الشديد لمؤسسات المجتمع المدني، الذي أفقدها استقلاليتها عن مؤسسات الدولة. وكما يقول أحد الكتاب العرب (يمكن ان يكون المجتمع المدني مصدراً لقيم المحافظة والرجعية مثلما يمكن ان يكون مصدراً لقيم الحرية والتقدم) وهذا هو حال المجتمع المدني في البحرين كان مصدراً لقيم المحافظة والرجعية.
في مقال هذا الكاتب تأتي هذه الفقرة (ما نريده وننشده ويتطلع اليه الجميع ان تستعيد كل الجمعيات والمنظمات عافيتها وان ينهض بها لتعيش (عهدها الزاهر) على النحو الذي شهده الجميع قبل سنوات مضت وهذا هو الشيء الجوهري والمطلوب ان نجعل الطريق سالكة لهذه المحاولة، المهم ان يكون هناك محاولة).
أولاً كما يقال التاريخ لا يعيد نفسه ويمكن ان يعود اما بشكل أكثر بؤساً او اكثر كوميدية. وكما كانت تردد ما تسمى بالمعارضة ان ما بعد ثورة ١٤ فبراير ليس كما قبله وبعد انهيار هذا الانقلاب كان شعار السلطة ان ما بعد قانون السلامة الوطنية ليس كما قبله.
وحتى تزول هذه الهالة (الديمقراطية) للمجتمع المدني او الهالة عن الطابع الليبرالي للمجتمع المدني (كما يراه كاتب المقال ويريد عودته ليعيش المجتمع المدني عهده الزاهر) نؤكد ان هدف النظم السياسية عامة هو الضبط الاجتماعي على مستوى نظام الحكم، بينما هدف المجتمع هو الضبط الاجتماعي على مستوى العلاقات بين الجماعات والافراد. وكلما متنت علاقات الافراد في المجتمع. وترسخت مؤسساته اتخذت الوظيفة الرقابية – التنسيقية للدولة طابعاً أكثر حدة وعدوانية وهذا هو عكس ما يتصوره (كاتب المقال لعودة الى العهد الزاهر). هذا التوتر البنائي بين الدولة واجهزتها الرقابية – التنسيقية من جانب وبين المجتمع المدني من جانب اخر هي ظاهرة كانت بائنة للعيان منذ ان تبلور المشروع الاصلاحي واخذت بعد اخر أكثر تشدداً في اثناء وبعد احداث الكارثة الدوار في ٢٠١١. وتقابلها ظاهرة مقاومة المجتمع المدني لمحاولات الدولة التسلط على كامل المجتمع والتصيد عليه كما هو ملاحظ من الاحتجاجات على التردي الحاد على مستوى حياة الناس المعيشي اليومي. ومع كل الانهيارات التي حدثت للمجتمع المدني في الفترة الماضية وعدم نضجها ورسوخها ودرجة استقلاليتها عن الدولة فقد تقلص هامش مقاومة ضغوط الدولة الرقابية وصارت درجة التمتع بحقوق المواطنة هو بمقدار الولاء السياسي الذي تظهره تنظيمات المجتمع المدني للنظام
الحاكم
لم يناقش المقال هذا التوتر البنائي بين الدولة والمجتمع المدني. وبالذات مسألة الوعي الاجتماعي الذي تبلور في هذه التجربة من المشروع الاصلاحي في المجتمع المدني؟ ذلك ان تنامي الوعي الاجتماعي والذي يمثل إحدى اهم دعائم المجتمع المدني. اذ أن العامل الدينامي في تكوين مؤسسات المجتمع المدني ورسوخها، هو روح المبادرة لدى المواطنين، والرغبة في الاعتماد على النفس، بدلاً من الاتكال على الدولة واجهزتها الرسمية (كما يرى كاتب المقال (وجعلوا اي المؤسسات الرسمية عدد لا يستهان به من جمعياتنا السياسية ومؤسسات مجتمعنا المدني تعيش اوضاعاً يرثى لها (لا دعم ولا مساندة من اي نوع) بالرغم من انه تم. رصد بشكل متزايد لجوء حركات اجتماعية وسياسية الى بناء مؤسسات خدمية خيرية او تطوعية، تحاول ان تمد نفوذها الى قطاعات واسعة نسبياً من الشعب. (كما ذكرها كاتب المقال بان هناك ٤٧٤ جمعية فاعلة) (ولكن للأسف ان معظم هذه المؤسسات كانت تعمل تحت مظلة ووصاية جمعيات الاسلام السياسي) او تحت مظلة النظام، بالرغم من انها كانت تحت عيون الرقابة الصارمة لوزارة الشئون او وزارة الداخلية. وبالرغم من وجود وانتشار طريقة التفكير العقلانية او العقلانية الاداتية اي مبدأ التمييز بين الخير العام (المصلحة العامة) والخير الخاص (المصلحة الشخصية) اخذ طابعاً تنظيمياً (عند نقابة البا كمثال)، ولكن بعد احداث كارثة الدوار في ٢٠١١ تم اضعاف هذا التفكير العقلاني او العقلانية الاداتية تحت شعار أن التنمية والامن لها الاسبقية على الحريات العامة (او الحرية السياسية) او العمل النقابي الخ. وامام انتشار الفساد الاداري والمالي وتفشي ظاهرة الاستنزلام. (الزبانة السياسية) والمحسوبية والواسطة، والاثراء غير المشروع على حساب الدولة، والاختلاس للأموال العامة، والغش والتدليس في المعاملات التجارية كما هي كثير من المشاريع المتعثرة في العقارات، والواسطة والمحسوبية والرشوة العينية والنقدية، وسوء استغلال النفوذ والسلطة والنصب والاحتيال السياسيان وتداعياته على حياة المواطنين بالتردي الحاد في المستوى المعيشي الخ. وهذا يبين كثرة التظلم الى الجهات القانونية، او اللجوء الى ضغط الراي العام عبر وسائل التواصل الاجتماعي وهو المجال المتاح الوحيد للمواطن ان ما يعيق اللجوء الى المجتمع المدني لمواجهة كل هذا أي اللجوء الى المجتمع المدني في مقابل الدولة، هو اضعافاً لهذه الامكانية الى ابعد حدود كيف يكون ذلك؟ فالمجتمع المدني عندنا هو مجتمع محافظ من الناحية السياسية، وقبلي وطائفي في الطريقة التي ينظر فيها الى الافراد والجماعات المختلفة، وابوي التنظيم يسوغ تسلط الرجل ويبرر التمييز ضد المرأة. واقصائي للآخر المختلف عنه ويميل الى العنف ان لم يكن الارهاب في التعبير عن رؤيته للتغيير وهذا ما لم يقدر ان يقوله (كاتب المقال) في هذه البيئة والتي تبلورت ونضجت في احداث كارثة الدوار ٢٠١١. تحولت الدولة المتسلطة سياسياً الى (وسيط) ورادع لتسلط مؤسسات المجتمع المدني والجمعيات الاصولية (الاسلام السياسي الشيعية والسنية) والجمعيات اليسارية السياسية الآخرى المتطرفة، على المواطنين وبذلك اكتملت حلقة التسلط.
اذن في الوقت الراهن فقد هيمنت الدولة على المجتمع المدني، وجعلت منه امتداداً لظل هيمنتها وحتى مع طرح برامج لتخفيف معاناة الافراد تحولت هذه البرامج الى هبات ومعونات تكرس نمطاً متخلف من توظيف الايدي العاملة، بل ان الوظيفة بحد ذاتها لم تكن اداة للإعادة توزيع الدخل الوطني، وليست اداة للمساهمة في النشاط الاقتصادي. وكاتب المقال لا يرى كل هذا ولا يرى ان (هويتنا) هذه الهوية هي ثقافة مجتمع مدني مبني على القبلية والطائفية والتنظيم الابوي، وقد هيمنت الدولة على المجتمع المدني بكل مؤسساته جمعيات مهنية، نقابات، منظمات شبابية او نسائية، وصولاً للجمعيات السياسية. والحقته بها اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، وحولت دولة الرعاية الاجتماعية الى جمعية خيرية لتوزيع الهبات او الصدقات في شكل وظائف (وخصوصاً مع وجود جيش العاطلين عن العمل البحرينيين)، فأصبحت الوظيفة اداة لإعادة توزيع الدخل، أكثر من كونها اداة للمشاركة في النشاط الاقتصادي. ان أحد الاسباب التي ادت الى كل ذلك والى اخفاق بلورة مجتمع حداثي يكمن في صعوبة تحول المجتمع (المتجزأ الى الكلية اي الاندماج الوطني) ومن العرف الى القانون اي من الجمعيات المغلقة والمتحاجزة والمتناحرة الى المجتمع المدني. ومن الملة الى الامة. وأبرز التظاهرات التي تبلورت في المجتمع المدني بعد كارثة الدوار والى الان هو تشظي (المجال السياسي) لكل منظمات المجتمع المدني وكذلك تشظي (مجالها السيادي) وتشظي هويتها السياسية. ذلكم هو الواقع الذي يقبع تحت (القانون الصوري، الشكلي) غير المعمول به في الواقع، والذي لا يتوفر بعد على (القوة) التي يتوفر عليها العرف والعادات والتقاليد والتعارضات الاجتماعية بينها وما تولده من إستقطابات وتنظيمات بعيدة كل البعد عن الحداثة والمفهوم الراهن للمجتمع المدني. لنقل ان الفارق النوعي بين (المجتمع الاهلي) والمجتمع المدني يكمن هنا وحتى الان ما هو سائد ويمكن تعينه هو عائلات ممتدة وقبائل وطوائف وجمعيات سياسية تلبست اسوا صفات هذه البنى، وحتى الجمعيات التي تدعي (اليسارية والحداثة) هي حداثة قشرية هشة ومثلومة، وقد سقطت في اول اختبار لها منذ دوار الكارثة وحتى الان. كما يذكر كاتب المقال انها اصبحت ميته سريرياً وتلهث وراء بقائها ان لم تكن تتلاشى.
في فقرة اخري يكتب الكاتب خليل يوسف (من بين الذين أكدوا على ذلك د مصطفي الفقي في كتابه (من نهج الثورة الى فكر الاصلاح) هو يؤكد ان الاصل في الحياة كلها هو السياسية بالدرجة الاولى؟) والكاتب هنا يربط فكر الاصلاح بالسياسية وفي مكان اخر يكتب (لماذا نعتمد سياسة النعامة ونتجاهل هذا الوضع بعد ان كنا نتباهى بهذه الكيانات وبدورها المجتمعي واعتبارها الجمعيات السياسية في المقدمة – ثمرة المشروع الاصلاحي) والسؤال هل تم تجاوز التركة الثقيلة التي ورثها المشروع الاصلاحي ليبدا بلورة مجتمع مدني حداثي وجمعيات سياسية حداثية تسير جنباً الى جنب مع الاصلاح او لنقل هل تحققت فيه وحدة المجتمع والدولة وتعينت فيه حدود السلطة السياسية، بوصفها المستوى النوعي الذي ترقى اليه وتتحدد به جميع السلطات (اذا اخذنا بمقولة (السلطة تنبع من كل شيء)، و لذلك تكون الممارسة السياسية الواعية ذروة النشاط الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والاخلاقي (للفرد) والذي صار مواطناً، اي عضو في الدولة السياسية. ونخلص الى ان لا شيء في الحياة الاجتماعية مجرد كلياً من السياسة. (كما جاء فيما يكتبه خليل يوسف: ان الاصل في الحياة كلها هو السياسة). هذا يفتح الى حوار حول علم الاجتماع السياسي او (السياسة) هناك رؤيتان مختلفتان في تعريف علم الاجتماع السياسي، السياسة: احداهما ترى فيه علماً (للدولة)، والثانية ترى فيه علماً (للسلطة). والسؤال هو الى اي توجه كانت تميل مؤسسات المجتمع المدني وجمعياته السياسية والتي تبلورت في المشروع الاصلاحي؟ نحن نميل الى انها كانت تبحث عن السلطة وانتزاع السلطة ولم تبحث عن مهمة انجاز الدولة والى استيفاء شروط المملكة الدستورية بل طرحت اسقاط الدولة وطرحت التحالف من اجل الجمهورية او دولة ولاية فقيه؟ ولم يقوم هذا المجتمع المدني بالدفع باتجاه تثبيت دعائم الاصلاح (وليس الثورة) في حياتنا السياسية لأن التكسر المجتمعي ونقص الاندماج الوطني يعينان سلطات متعارضة ومتناقضة ومتحاجزة تحتاج الي النسيج الضام. وبأخذ المجتمع المدني والجمعيات السياسية بتعريف على الاجتماع السياسي (السياسة) على انه او انها علم السلطة، لكنا كمن ينظر لتسويغ الاوضاع القائمة واضفاء طابع الشرعية القانونية والاخلاقية على السلطات الدينية والطائفية والقبلية التي تنبع من بنى المجتمع التقليدي. بينما لم يتم الانتباه له ويأخذ بأهمية لدى قوى المجتمع المدني من الاخذ بتعريف علم الاجتماع، او علم السياسة، على أنه علم الدولة، ولنقل لمزيد من الايضاح، أنه علم المجتمع المدني والدولة الوطنية السيدة، او علم السيادة الوطنية. أن السياسة بمعناها الحديث فاعلية اجتماعية ومجتمعية قوامها مشاركة جميع المواطنين في الحياة العامة على المستوى الوطني، وفي حياة الجماعة الانسانية (وليست القبلية والطائفية والجمعيات العقائدية). ربما لازال البعض يتأكد أن علم السياسة هو علم السلطة: يعرف هذا العلم بعلم السلطة والحكم والتمتع بالسلطات والقيادة لدى سائر مكونات المجتمع والفئات. والعلم السياسي وفق هذه الرؤية يدرس منظومات العلاقات غير المتكافئة بين الحاكمين والمحكومين او بين ذوي النفوذ والخاضعين لنفوذهم، في ظل عدم المساواة. ويتخلى هذا التصور ضمنياً عن نظرية سيادة الدولة، او بشكل ادق فإنه يعتبر السيادة ايديولوجية وليست واقعية. وبالتالي فإن سلطة الدولة لا تعتبر مختلفة قبلياً، عما هي عليه لدى الجماعات المشكلة للمجتمع المدني. ما يلفت النظر في هذه الحجج فكرة (الجماعات المشكلة للمجتمع المدني) وهي عندنا جماعات ما دون الوطنية وما دون القومية فضلاً عن كونها جماعات مغلقة ومتحاجزة وقائمة على عدم المساواة وعدم التكافؤ، كالقبائل والطوائف والجمعيات الا ديمقراطية التي تنطوي كل منها على معنى ما للسلطة. وليس لاي من هذه المعاني معنى (السلطة السياسية)، وهنا فأن وصف السلطة بانها سياسية هو العنصر الحاسم في اختيار تعريف علم السياسة بأنه علم الدولة حيث لم تترسخ فيها بعد فكرة الدولة الحديثة وفكرة السيادة الوطنية، اي سيادة الشعب ولا يمكن قبول مفهوم علم السلطة التي تتبناه الجمعيات المشكلة للمجتمع المدني. او كما تتبناه الدولة.
يبدو تمييز (الدولة) من (السلطة) ضرورياً في النقاش مع كاتب المقال وطرحه لما يسميه ايجاد حل لكل الظواهر الموجودة في المجتمع المدني الراهن في البحرين ذلك ان مفهوم (السلطة) أقدم من الدولة في البحرين واوسع نطاقاً وأكثر تنوعاً والتعبير عنها قديم في تجارب الجماعات والتجمعات في البحرين. اما مفهوم (الدولة او المملكة الدستورية) فهو مفهوم حديث فتجد عند الكثير من الناس لا زالوا يستخدمون الكلمات الدالة على (السلطة) أكثر من استخدامهم لكلمة (الدولة). والسؤال هنا هل ثمة مضمون اجتماعي (طبقي) للدولة، والى اي حد يتفق هذا المضمون (الطبقي الخاص) والجزئي مع ما المفروض ان تكون عليه الدولة كونها (عمومية)؟ وكيف نحل المفارقة التالية ضمن إطار هذا الفهم؟: المجتمع المدني مجتمع الافراد المختلفين والمتنافسين والطبقات المختلفة والمتخالفة، ومن صنعهم، في حين تنقلب هذه الواقعة الموضوعية، في الدولة، راساً على عقب، حتى لتبدو لنا الدولة بريئة من الاختلاف والتعارض وهي تعيش حالة من الانسجام الهارموني، وحتى ليبدو المجتمع كأنه من صنعها وبتعبير اخر: المجتمع المدني ميدان التعدد والاختلاف والتعارض، والدولة ميدان الوحدة؛ المجتمع المدني فضاء (الحرية)، والدولة (مملكة القانون). هذا اللغز محلول في العقد الاجتماعي (الدستور)، والذي هو من المفترض ان يكون الصيغة الذاتية للمجتمع السياسي، او الصيغة السياسية الذاتية التي ينتجها المجتمع المدني لنفسه. ومن هنا فأن المجتمع المدني هو ميدان (الموضوعية)، والمجتمع السياسي (الدولة) هو او هي ميدان الذاتية. كيف يكون ذلك سيقول الذين يحبون الموضوعية ويكرهون الذاتية؟ هنا الرد عليهم بسيط وهو: السياسة هي ذاتية المواطن. والذاتية هي الاستقلال والحرية. بعضوية في الدولة يحقق المواطن ذاتيته تحقيقاً ايجابياً فعلياً، او هكذا يفترض. الذاتية مؤسسة في الموضوعية، لأن الانسان مؤسس في العالم الطبيعي والاجتماعي والثقافي والسياسي والانتاجي، والا فهي ذاتوية. واهمة او وهم ذاتي. الامة هي الصيغة الذاتية للمجتمع المدني، والا فهي محض اوهام ذاتية قبلية وطائفية ومذهبية وجمعيات سياسية تتلون بهذه الصفات. السياسة بما هي فاعلية اجتماعية ومجتمعية، ربما هي ذاتية المواطن ومحصلة نشاطه ومشاركته الايجابية في الحياة العامة هي المدخل لمفهوم(الامة)، المداخل الآخرى تؤدي الى اوهام ذاتية كالتي وسمت الحراك السياسي الاسلام السياسي او حراك التيار الوطني الديمقراطي الذي انجرف خلفهم وادى الى تمزيق ما يشبه الامة والهامش من الاندماج الوطني ليؤدي الى اعادة الترتيبات القبلية الطائفية؟!! وهذا الحراك أصلاً لا يعترف بالواقع الفعلي (للأمة). اي المجتمع المدني، لا يعترف بأن (الامة) كينونة اجتماعية في البحرين وفي التاريخ ومن هنا فإن هذا الحراك السياسي لا يستمد فكره من الواقع، بل يستولد الواقع من الفكر الطائفي او القومي او الستاليني. وياله من فكر!!
كثير من اليسار يسأل عن موقفه من الدولة وتكون الاجابة جاهزة الدولة اداة قهر طبقي او الدولة اداة السلطة؟ ليس للدولة بوصفها (تجريد) العمومية اي مضمون طبقي خاص او جزئي، والا لكفت عن كونها دولة بالمعنى الحديث للكلمة. بيد أن (الطابع) الطبقي الذي ينسب للدولة هو (طابع) (سلطتها السياسية) فحسب، ولهذه السلطة السياسية دوماً (طابع) طبقي خاص، اذ تعبر دوماً عن الطبقة السائدة او المسيطرة، اي ان (الطابع) الاجتماعي الذي يبدو انه (طابع)الدولة هو (طابع) ما يطلق عليه اسم سابقاً الحكومة، وحالياً السلطة التنفيذية فقط، وما من شك في ان هذه السلطة السياسية (تطبع) الدولة (بطابعها) الى هذا الحد او ذاك، بحسب ما تكون عليها علاقاتها مع بقية المجتمع، وحين تتماهى (السلطة والدولة) كما حدث عندنا بعد احداث كارثة الدوار تضمر(الدولة)حتى تطابق حدود (السلطة)، ومن ثم يغلب الخاص (السلطة) على العام (الدولة) ولجزء (السلطة) على الكل (الدولة) وهذا هو مبدأ الاستبداد و علته. وقياساً على هذا من هي الطبقة السائدة او الطبقة الصاعدة التي وجدت في الدولة او طرح مشروع اصلاحي تحت مسمى (المملكة الدستورية)، بأنه الشكل المناسب للانتقال من الدولة الناقصة الى مملكة دستورية مع انفراج سياسي وهامش ديمقراطي ليناسب سيطرتها السياسية؟ ولماذا اهتمت (كطبقة او طبقات) صاعدة بالدستور والمؤسسات الرسمية؟ وهل هذه الطبقة هي بورجوازية او تحالف ضمني كما يسميه محمد الغانم (مشكل من العقاريين الجدد والاحتكارات العائلية التجارية، والبورجوازية المالية، وبيروقراطية الدولة المركزية، مع نخب حاكمة). يكون الطابع المهيمن عليها هو البعد القبلي والطائفي؟
البورجوازية الاوربية الصاعدة (وجدت في) (الدولة) الشكل المناسب لسيطرتها السياسية، ولهذا اهتمت كطبقة صاعدة في القرن السادس عشر بالدستور والمؤسسات الرسمية ذات الطابع العام، الوطني او القومي، التي تتوخى النفع العام، وراحت تعزز هذا الطابع في جميع مؤسسات الدولة حتى اكتست الدولة طابعاً بورجوازياً اساسه علاقة البورجوازية الصاعدة بفئات المجتمع الآخرى، وموقفها الجذري من النظام القديم بوجه عام، ومن النبالة والإكليروس بوجه خاص. فتحالفت مع الملوك في بلدانها وجعلت من (الملك) تعبيراً (رمزياً) عن وحدة الدولة وكلية المجتمع. ولذلك ارتبط مفهوم الدولة الحديثة، منذ نشوئه، بمفهوم المجتمع المدني على الصعيد (الاجتماعي) وبمفهوم الامة على الصعيد الثقافي، وبمفهوم الشعب على الصعيد السياسي.
أن مشروع الدولة السياسية. كما يسميها ماركس يظل مفتوحاً على احتمالان : احداها اطلاق سيرورة تفتيت وتذرير تعيد قيام كيانات سياسية طائفية وقبلية دينية ومذهبية يناقض مضمونها معنى السياسية ومعنى الدولة ويعاكس اتجاه التاريخ على طول الخط وهو ما عملت عليه ايران وتنظيم القاعدة واذرعها ووكلائها الاسلام السياسي سواء كان في الضفة السنية او الشيعية ويأتي تحت هذا غطاء يريد العودة بالكيانات التي تأسست مع بداية تبلور المشروع الاصلاحي والتي تم حلها وان كان تحت شعار (ازالة العزل السياسي الذي فرض عليها) والذي نتجت عنه الاوضاع القائمة كما ذكرها الكاتب خليل يوسف جمعياتنا وحالها وما ادراك ما حالها، وهو ما ترجحه حتى اليوم البنى الاجتماعية والايديولوجية والسياسية ناهيك عن التأخر التاريخي الذي تكثف في هذه البنى حتى وصلنا لحالة الخواء السياسي. ما الاحتمال الثاني: يعني بإعادة الاعتبار للمجتمع المدني والدولة السياسية (الوطنية)، او انتاج (عقد اجتماعي جديد) يغتني شكلاً ومضمونا بالتراكمات والمكاسب التي تحققت في المشروع الاصلاحي شكلاً وبالتالي يجب ان يتم اعادة مضمونها الذي لم يتم العمل به؟ وهنا يأتي المجتمع المدني وراهنيته على ما فيه من تنوع واختلاف وتعارض هو التجسيد العياني للامة او الواقع المادي الكثيف للامة، والامة هي تعبيره الثقافي تعبير عن وحدته التناقضية. وهنا تختفي التعارضات للوجود الاجتماعي المباشر اي للبنى الطائفية والقبلية والمذهبية. فلو كان المواطنيين ينتجون اختلافاتهم وتعارضاتهم. في المجالين السياسي والثقافي كما هي في وجودهم المباشر (قبائل وطوائف ومذاهب) وعشوائية حياتهم اليومية واختلاف غايتهم وتناقضاتها وتضادها فلن يكون هناك (اجتماع بشري). وهذا يضع فرقاً جوهرياً بين فكر سياسي قومي او اسلاموي او يساري عقائدي يستمد مقولاته ومبادئه من (ذاته) وفكر سياسي يساري عقلاني او حتى فكر بلا صفة اخرى، يستمدها من الواقع العياني فالعلاقة هنا بين فكر مشدود الى الماضي، واخر متدرج في الحاضر ومتجه للمستقبل.
نعود مرة اخرى لعلاقة الدولة بالمجتمع المدني عبر سؤال: كيف يستقيم أن تمثل الدولة تجريداً (لعمومية) المجتمع المدني في الوقت الذي تمثل فيه (سلطتها السياسية) مصالح طبقتها او طبقاتها السائدة والمسيطرة اي تمثل مصالح طبقة اجتماعية بعينها، اي كيف يستقيم أن تكون (الدولة) عامة وكلية (وسلطتها السياسية) خاصة وجزئية؟ وهل بوسع الخاص والجزئي (سلطتها) أن يطبع العام والكلي (الدولة) بطابعه من دون أن يكون فيه عنصر عمومية وكلية، أم إن عمومية (الدولة)هي التي تطبع (السلطة السياسية (الحكومة) بطابعها فتجعل منها شيئاً عاماً؟ واين تكمن بالضبط (عمومية) الدولة؟ كارل ماركس يجيب عن هذه الاسئلة في كتابه الايديولوجية الالمانية : (ان كل طبقة جديدة تحتل مكان طبقة كانت سائدة قبلها مضطرة، ولو لمجرد تحقيق اهدافها الى تمثيل مصالحها على انها المصلحة(المشتركة) لجميع اعضاء المجتمع، يعني أنه ينبغي لها، إذا شئنا أن نعبر عن ذلك على صعيد الافكار، أن تعطي افكارها شكل (العمومية)، وأن تمثلها على انها الافكار الوحيدة العقلانية، الافكار الوحيدة الصالحة بصورة شاملة، أن الطبقة التي تريد التغيير تمثل منذ البداية، لمجرد أنها تعارض طبقة اخرى، لا على انها طبقة، بل على انها ممثلة المجتمع (بأسره)، انها تتجلى على انها (الكتلة الكاملة) للمجتمع في مواجهة الطبقة السائدة، وانها تستطيع أن تفعل ذلك، بادئ ذي بدء، لأن مصلحتها أوثق ارتباطاً بعد بصورة فعلية (بالمصلحة المشتركة لجميع الطبقات غير السائدة الآخرى، وذلك لأن تلك (المصلحة) لم تسنح لها الفرصة بعد تحت ضغط الاوضاع القائمة حتى ذلك الحين، كي تتطور على انها (المصلحة الخاصة) لطبقة خاصة، وبالتالي فإن انتصارها يعود بالمنفعة أيضاً على افراد كثيرين من الطبقات الآخرى التي لم تتوصل الى السيطرة، ولكن بقدر ما تجعل هؤلاء الافراد في مركز يمكنهم من الانتساب الى الطبقة السائدة). هنا لا بد من التساؤل هل اعطى من بلور في بداية المشروع الاصلاحي والذي احتل الحقل السياسي (بانها اصلاحية وطرحت وثيقة سياسية سميت بميثاق العمل الوطني) كما تم وصف هذا التغير، اي هل اعطى افكاره صفة العمومية، وهل قدم مصلحتها على انها المصلحة العامة واعترفت له بذلك سائر الفئات والطبقات الاجتماعية الآخرى؟ ربما يكون ذلك في بداية بلورة هذا المشروع وتحت مظلة ميثاق العمل الوطني ونسبة التصويت العالي علية والتوافق السياسي الذي تم عليه. كما يذكرنا كاتب المقال بأن كل ذلك كان ثمرة للمشروع الاصلاحي ولكن الانعطاف الجذرية بدأت مع كارثة الدوار في ٢٠١١ وهذ ليس تبرير، انما هو واقع، لكي ندخل في مرحلة العلاقة بين عمومية الدولة وشموليتها وهما ضدان، العلاقة بينهما علاقة تناسب عكسي، (العمومية) هي مبدأ (الملكية الدستورية) وهذه اي الملكية الدستورية، هي المقابل السياسي (للعمومية)، والشمولية مبدأ الاستبداد اي هل تحولت الكتلة الاساسية من الشعب الى (شعب الدولة) وهو المقابل الشمولي لدولة الشعب. هذا كان واحد من اهم تداعيات كارثة انقلاب مشروع الدوار تحول الشعب الى شعب الدولة وهي النتيجة المنطقية والتاريخية لتدمير البنى الاجتماعية واعادة تنسيقها، وادماج مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في مجال واحد هو مجال ممكن ان نطلق عليه الى حد ما (السلطة الشمولية)، اي ضمان استمرار السلطة وديمومتها واعادة انتاجها.
اذاً هناك فرق بين (شعب الدولة) و (دولة الشعب) وذلك عندما تتحول سلطة الدولة الى الشمولية (بمعنى الاستبدادية) ولنأخذ تجربة العراق كنموذج لدولة التسلطية وهي قريبة للتجربة البحرينية من الناحية القبلية والطائفية رغم ان الدولة هناك جمهورية وهنا الدولة ملكية. حيث بينت تجربة العراق الاخيرة أن السلطة الشمولية صارت اهم من الوطن والشعب، بعد أن اختزلتهما الى حزب وقائد وزعيم ملهم، فما أن اختفى الزعيم حتى اختفى الحزب واختفت الدولة التي كان قائدها وقوامها، واحتل الوطن واستبيح الشعب، وانقلبت (جماهير) القائد والحزب القائد ضدهما بين ساعة واخرى ورجعت البنى الاجتماعية سواء الطائفية او القبلية او العشائرية الى ولئاتها ما قبل المدنية والقومية ودخلت في حرب طائفية وقبلية وقتل على الهوية وتلاشت هنا الدولة. تلكم هي اهم الظواهر التي تحتاج الى تأمل وتحليل وهنا في البحرين للأسف لعبت ما يسمى بالمعارضة (الاسلام السياسي الشيعي والسني والجمعيات اليسارية المتطرفة في تحويل التجربة من دولة الشعب في بداية تبلورها الى شعب الدولة بدخولها الى السلطة الشمولية. السلطة الشمولية او الدولة التسلطية والمجتمع المدني ضدان الاولى لا تقوم ولا تستمر الا على اشلاء الثاني، والدولة التسلطية والقوى الطائفية المسيسة واليسار المتطرف لا تدرك انها حين تدمر المجتمع المدني وتهمشه انما تدمر الدولة وسلطتها السياسية وكذلك الجمعيات والمعارضة السياسية، فلا تعود السلطة سواء في الدولة او المعارضة سلطة سياسية بأي معنى من المعاني. السلطة السياسية او المعارضة السياسية لزيمة. الدولة السياسية اي الدولة الوطنية.
ليس بوسع اي حلف طبقي ضمني او تحالف مكون من رجال دين وملالي أن تهيمن ثقافياً وتسيطر سياسياً من دون ان تتصف بذروة من (ذري المشروعية العليا) التي هي التعبير العملي عن (العمومية)، وهو ما يجعل الفئات والطبقات الشعبية تعترف سواء للحلف الطبقي الضمني (للسلطة) او تحالف الاسلام السياسي واليسار المتطرف اي لمن يهيمن ثقافياً والمسيطر سياسياً بانها تمثل المجتمع كله وان كان على مستوى الاسلام السياسي الاغلبية الشيعية والاقلية السنية. ولذلك كانت الطبقات الاجتماعية القديمة والحديثة في حاجة ماسة الى (الدين) والمذهب والعقيدة بوصفه ذروة من ذرى المشروعية العليا، وتحت هذه القشرة المثالية يقبع سواء الصراع بين الطوائف شيعية / سنية كما هو حادث اليوم من الصراع الديني (والذي يأخذ طابع طائفي من على منبر المساجد) والذي يبعد الاحتجاج ضد تردي الوضع المعيشي الحاد للكلية المجتمعية، وذلك بتوجيه المجتمع لكي يستقطب مرة ثانية على اساس طائفي وعنده تضيع المطالب والحقوق وتأخذ مطالب ذات طابع طائفي بحت حقوق ملة او طائفة. ونرجع الى نفس المربع الكارثي وهو (أن عدتم عدنا) وهنا يكون الاستقطاب (منبر شيعي ضد منبر سني)؟!! وذلك راجع الى أن الاحتياج المتبادل بين المواطنيين والجماعات والفئات الاجتماعية، يتم الوقوف ضده عبر اعادة انتاج الصراع الطائفي عبر المنبر الديني، بدل من إن يكون الاحتياج والتضامن والتلاحم بين المواطنيين بشكل عام أكثر قوة ووثوقاً، وتماسكاً وأكثر شفافية. بالقدر الذي يتخطى ويتحرر المجتمع من حدوده الطائفية والقبلية وبقد ما تخرج الجماعات من عزلتها والفتاوي التي تفرض عليها وتطالبها بالانصياع والاذعان لها وان تودع هذه الجماهير انغلاقها على ذاتها الى غير رجعة.
مع تردي الوضع المعيشي للفئات والطبقات الاجتماعية وفي ظل وجود (جمعياتنا وحالها وما ادراك ما حلها) ومجتمع مدني لازال يستقطب طائفيا هذه المرة بين المنابر الدينية وعدم وجود افق لحل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وبرلمان عاجز التعبير وعاجز عن التشريع وسن القوانين لمصلحة الفئات والطبقات الشعبية والسلطة السياسية تطرح اولوية الامن والتنمية ومحاولة جر التناقض الى ملفات ثانوية مثل العمالة الوافدة، من البديهي أن العلاقات بين الافراد والطبقات الاجتماعية سوف تنمو وتتطور وتتغير في طرح مطالبها المشروعة ان لم نقل (تتمرد)، ومن ثم فأن الطابع الجزئي للسلطة السياسية الذي اصبح يقارب الكلية (الدولة)، بما هي محصلة العلاقات الطبقية وتعبير عياني عنها، ينمو ويتطور ويتغير هو الاخر ويصبح اكثر تشدداً في تعامله مع أي تمرد يخرج عن السيطرة. وكلما نما هذا الطابع الجزئي واستقلت مصلحة الطبقة السائدة او الحلف الطبقي الضمني، عن مصالح الطبقات الشعبية الاجتماعية الآخرى، تغدو السلطة هنا تناقضاً في ذاتها، وكذلك الدولة، بين عنصر العمومية الذي هو قوام الدولة ومناط العلاقات الضرورية بين الطبقة السائدة او الحلف الطبقي الضمني وسائر فئات والطبقات الشعبية الآخرى من جهة، وخصوصية وجزئية السلطة السياسية اللتين تنموان باطراد، وتفضيان الى الاحتكار الفعال لمصادر السلطة والقوة والثروة من جهة اخرى في الوقت الذي فيه المجتمع المدني ومؤسساته مهيمن عليه من السلطة وغير قادر على النهوض في كل مرة يحدث فيها ذلك لتصحيح هذا الانحراف ولجم هذا التطرف من السلطة السياسية. الدولة ستكون معرضة دوماً لهذا التوتر والتناقض بين الاحتكار الفعال لمصادر السلطة والقوة والثروة والمقاومة التي يبديها المجتمع المدني، وبين القوة والسياسة او بين سياسة القوة وقوة السياسة، وهذه الاخيرة هي قوة المجتمع المدني. وعندما تستخدم الطبقة السائدة او الحلف الضمني الطبقي، جميع عناصر ومصادر القوة التي توفرها لها الدولة فضلاً عن قوتها الاقتصادية كما هو حادث اليوم فأنها تتمكن من الهيمنة على المجتمع المدني وشل طاقاته وتهميشه، وتنسيق بناه، بما يكفل ديمومة احتكارها لمصادر السلطة والقوة والثروة إلا انها تقود المجتمع والوطن الى ازمة.
المرجع: كتاب خلدون النقيب – اراء في فقه التخلف.
كتاب جاد الكريم جباعي – المجتمع المدني هوية الاختلاف.