في ظل الصراع العالمي الراهن بين الإمبرياليات الروسية والصينية والثالث الامبريالي المكون من اوروبا وامريكا واليابان، وخصوصا مع غزو روسيا الامبريالية لأوكرانيا وتمددها في افريقيا وغزو الصين اقتصاديات الدول الافريقية وكذلك هيمنة الامبريالية الفرنسية والامريكية فيها اصبحت الحروب والانقلابات العسكرية ظاهرة لا لبس فيها ذلك ان الاستقطاب السياسي الذي أصبح الصفة العامة للعلاقات بعد هذه الصراعات والنزاعات العالمية فيما يشبه تعادل في القوي والذي يؤدي الي طريق مسدود. فهناك حرب العسكر في السودان والذي جاء على انقاض فترة قصيرة من الحكم المدني والذي انهار تماماً امام صراع العسكر على السلطة وهناك الانقلاب في النيجر وقبله مالي وبوركينا فاسو والان الغابون وهنا العسكر كانا جزء من النظام التسلطي في كل منها وهو كان احد اسباب انهيار الحكم المدني الهش ذلك ان مهمة السيطرة على التيار المهيمن وحل معادلة الاستقطاب السياسي والاجتماعي والفساد والفقر كانت مهيئة لطرف له مصالح مباشرة في العملية الاقتصادية – السياسية ضمن اطار مصلحته الانانية، لذلك فهو اكثر حسماً واشد بطشاً في الوصول الي مأربه، فهو موحد غير مشتت وبالتالي يطرح امام الاخرين سواء في داخل الدولة او خارجها بأنه من السهل التعامل معه وهم (العسكر) وهو ما يرشح ان تقع دول اخري تحت مظلة الحكم العسكري، ان ظاهرة بهذا الحجم وبهذا الاتساع تطرح العديد من التساؤلات، ولذلك فكل من يريد التصدي لتفسير هذه الظاهرة في اطارها الافريقي او اطارها العالمي كحلقة من الظاهرة العسكريتارية التي تجتاح افريقيا وفي ظل الامن الفرنسي والامريكي والروسي والصيني لابد ان يواجهها واحداً أو أكثر من الاسئلة التالية
- اية كفة كانت الارجح قبل مجيء العسكر: كفة القوي الوطنية ام كفة الفئات الحاكمة اليمينية؟
- لو لم تحدث الانقلابات، ماذا كان يمكن ان يحدث؟ هل كان بإمكان القوي الوطنية ان تصل الي السلطة بعد ان تحسم الصراع لمصلحة الحكم المدني؟
- هل كانت الانقلابات ضرورية او حتمية لمنع وصول القوي الوطنية الي الحكم مثال السودان؟ بينما في النيجر ومالي وبوركينا فاسو والغابون فانقلاب العسكر كان عبر من يقود الحرس الوطني اي من مؤسسة الجيش وهم يطرحون انهم جاءوا الي الحكم لإنقاذ البلاد من كارثة حرب اهلية او كارثة اقتصادية او لحل مازق عملية التنمية او مكافحة الفساد؟
- هل مثل الانقلابيون العسكر مصالح طبقة او فئات طبقية ينتسبون اليها كتلك التي يطلق عليها الطبقة الوسطي الجديدة؟ ام انهم كانوا يعملون لمصلحة طبقات اخري؟
- هل كان الانقلابيون العسكر واعين لدورهم التاريخي كما كان في السابق ايام حركات التحرر الوطني؟ وهل كانوا واعين لدورهم في صراع القوي الوطنية ضد المصالح التي مثلتها الفئات الحاكمة اليمينية المتسلطة؟ وهل كان دورهم هو في الوقوف ضد الغاء المكاسب الديمقراطية والدستورية وحجبها عن عامة الشعب او كان دورهم هو العكس؟
- ما هي علاقة الانقلابين العسكر بالدول الامبريالية الرأسمالية – الامبريالية روسيا الصين امريكا فرنسا الخ؟ وما هو دورهم في الصراع الدولي والظاهرة العسكريتارية؟ هل هم بناة امم او دول؟ ام انهم مجرد بيادق فيما يسمي الصراعات العالمية الراهنة.
في الاجابة على السؤال الاول عندما يكون هناك تعادلاً في القوي ولم يكن هناك رجحان ذا قيمة في كفة الحكم او المعارضة. ولذلك جاءت الانقلابات التي حدثت في السودان او ليبيا او النيجر او مالي او بوكينا فاسو او الغابون من النوع المصحوب بالتحول الفجائي في موازين القوي بالرغم من ان كل الجنرالات الذي سيطرو على الانقلاب كانو ضمن تركيبة النظام بالذات في النيجر ومالي وبوركينا فاسو والغابون لكيلا ينهار النظام من الداخل ففي النيجر تم الاطاحة ببازوم الرئيس المنتخب وفي الغابون تم الاطاحة بالرئيس المنتخب في انتخابات مزورة وكذلك في الدول الأخرى. والسؤال السادس اعلاه هو مسألة محسومه، لأن الانقلابات العسكرية تحدث في نظام سياسي تابع، اي مخترق كاملاً من القوي الامبريالية الفرنسية والامريكية والروسية (مرتزقة فاغنر) والصينية بالهيمنة الاقتصادية، ولذلك فأن جميع الانقلابات بأنواعها الثلاثة الرئيسية : المولدة للحل الفجائي، او التصحيحية – الاعتراضية، او التقليدية لابد ان تكون واحدة من ثلاثة، اما انها قامت أ – بتمويل وتخطيط من القوي الامبريالية ب- او بدعم وتشجيع من القوي الإمبريالية- واذا لم تحظ بهذا وذاك – فلا بد ان تصل الي تفاهم وتكيف مع القوي الامبريالية المهيمنة في المنطقة وهذا ما يبحث عنه جنرالات النيجر في محاولة لأخذ الشرعية من فرنسا لحكمهم بالرغم من التلويح بطرد السفير وقطع العلاقات مع فرنسا. هنا لابد من الربط بين ظاهرة العسكريتارية والحركات القومية، فالظاهرة العسكريتارية الحديثة مرتبطة أساساً بظهور الجيش المحترف حسب نظام التجنيد خلافاً لكل الاشكال التاريخية للجيوش والتي تبلورت في المرحلة الراهنة من متطوعة ومرتزقة (فاغنر الذي اغتيل مع ساعده الايمن بوتيومكن) ومليشيات مثل الجنجاويد وحزب الله وبوكو حرام الخ. ويمكن القول ان الرأسمالية هي التي اوجدت العسكري المحترف وصاحب المشروع الصناعي في الوقت نفسه، ولكن ظهور الجيوش المحترفة كان محكوماً في الغرب بنوع من التوازن المؤسسي في ما يسمي العلاقات المدنية – العسكرية، بموجب هذا التوازن يكون هناك توصيف مؤسسي للجيوش بحيث تختص بوظيفتها وهي الدفاع عن الوطن ضد المعتدي الخارجي، ولا تتدخل في شئون المجتمع المدني الداخلية ولكن النعرات القومية المتعصبة منها وما تجره من حروب كما هو حادث اليوم من غزو روسيا لأوكرانيا تؤدي الي الاخلال بهذا التوازن، فتظهر الروح العسكريتارية متمثلة بالنازية والفاشية الروسية ومن هنا كان التزاوج بين العسكريتارية والروح القومية منذ وصول بوتن الي سدة الحكم.
في ظل الصراعات العالمية والتي يتم فيه محاولة اعادة تقاسم العالم بين الإمبرياليات خصوصاً الناشئة مثل الامبريالية الروسية والصينية والتي بدأت في سوريا وليبيا دول عربية وافريقية وانتقلت الي اوروبا بغزو روسيا لأوكرانيا مما أحدث نقلة نوعية في الاستقطاب العالمي وخصوصاً توسع حلف الناتو بدول كانت بعيدة جداً عن الحروب مثل فلندا والسويد الخ.
بدأت تجتاح الانقلابات العسكرية دول في قارة افريقيا المختلفة نوعياً عن الانقلابات بما سمي بالربيع العربي في ظل الامن الامريكي. وبعد حرب روسيا وغزوها لأوكرانيا لتقسيم العالم بين الدول الامبريالية وبسببها. وهذه الانقلابات تعبر بشكل خاص عن ازمة الرأسمالية البنائية (الاقتصادية الحضارية)، والتي تبلورت في الاتحاد الروسي بروحها الاستعمارية بشكله النازي والفاشي بديل لحل هذه الازمة وتشترك هذه الانقلابات في افريقيا في ظل عدم حسم الصراع الامبريالي لمصلحة اي من الإمبرياليات لحد الان. وفي ظل هيمنة تعدد الامن هناك الامن الامريكي والامن الفرنسي والامن الروسي والامن الصيني والامن الياباني الخ وبالذات في روسيا الاتحادية كون اصولها ومصادر تأييدها تأتي من طبقة المافيا والتجمع الصناعي العسكري في ظل الرأسمالية الاحتكاري، ومعاداة الديمقراطية والميل الي حكم الحزب ولنقل الفرد الواحد، وسيادة النعرة القومية المتعصبة الشوفينية، تأكيد واستعراض القيم العسكرية والدعوة الي الغزو والي العنف المسلح لحل النزاعات والصراعات الاجتماعية. وتمثل الانقلابات العسكرية في ظل الصراعات العالمية الراهنة تزاوج بين العسكريتارية (احتراف مهنة الجيش) والروح القومية المولدة للظاهرة الشعبوية ونري هذه الظاهرة في تجمع الجماهير في ملاعب كرة القدم والتي يخطب فيها العسكر. قد يغفل البعض عن الحقيقة التي تقول ان هناك فروقات نوعية مهمة بين العنف والنزاعات المسلحة التاريخية القديمة، وبين العنف والنزاعات المسلحة بالانقلابات العسكرية الحديثة، فهناك:
- التغيرات التي طرأت على الدولة ووظائفها وخاصة في اداء وظائف الدولة. فوظيفة القمع، واداة العنف السياسي، هي وظيفة تابعة ولاحقة لنظام الحكم ولم تعد تخدم (او تكفي بحد ذاتها) كأساس لشرعية نظام الحكم كما كان يحدث في السابق لهذا فأن العسكر الانقلابيون في النيجر والغابون لم يقوموا بتصفية بازوم او رئيس الغابون بالرغم من ان الجنرالات هم من كانوا مهيمنين على الاجهزة الامنية واجهزة الجيش؟
- فقد تغيرت طبيعة العنف السياسي وأصبح تأثيره أكثر شمولية وعسفاً وعشوائية، واصبحت الاسلحة المستخدمة فيه اشد ايذاء وأكثر ضحايا نموذج حرب الجنرالات الحصول حالياً في السودان. وإذا كان العنف حقق غرضاً سياسياً في السابق، فأنه في الاغلبية العظمى من الحالات ينتهي عند تحقيق هذا الغرض. اما في الاوضاع الراهنة فإنه لا ينتهي عند تحقيق غرض معين، وفي بعض الاحيان يتحول الي غرض بحد ذاته.
- إذا كان العنف السياسي المسلح في الدول القديمة قد استهدف فرض نظام حكم معين او هيمنة جماعة او قبيلة دون اخري، فأن العنف السياسي المسلح في ظل الصراع بين الإمبرياليات الراهنة يرمي الي الاستعباد الماكر المبطن الكامل: الاقتصادي والسياسي والحضاري لدول المركز الامبريالي الاتحاد الروسي والصين بالضد من الثالوث الامبريالي امريكا اوروبا واليابان. ولا يستدعي، لتحقيق هذا الاستعباد، الاستعمال المباشر للعنف المسلح كما هو حادث من تهديد منظمة الاكواس. او فرنسيا بالتدخل العسكري في النيجر. ولا يمكن محاربة هذا الاستعباد بمجرد استعمال العنف المسلح.
- وأخيراً، فإن ظاهرة الانقلابات العسكرية في العالم، وضمنه افريقيا قد تعاظمت في ظل تحول العالم الي مرحلة اعادة استعمار وتقاسم العالم مرة اخري وذلك كعملية انتقال للدخول في مرحلة الامن الروسي او الصيني او الامريكي بعد الامن الفرنسي؟ ويجب ان يكون واضحاً، وبجلاء، ان العنف المسلح في مرحلة الامن الروسي او الصيني او الامريكي او الفرنسي الراهنة لم يعد خياراً تختاره الدول الافريقية او شعوبها وانما سرف يصبح قدراً مفروضاً عليها لا تستطيع الفكاك منه، او الوصول الي اهدافها من دونه. وهو (مسرح العرائس) الذي تحرك خيوطه دول المراكز الامبريالية الروسية الصينية الامريكية /الاوربية، او إذا شئت فهو كالملهاة الاغريقية القديمة التي يحفر ابطالها قبورهم بأيديهم. فالعنف المسلح الذي سيأتي بالعسكر الي الحكم سيؤدي الي توسع الالة العسكرية التي ستستنزف الاموال اللازمة لعملية التنمية، والعسكر الذين وصلوا الي الحكم بالعنف لابد ان ينافحوا في سبيل البقاء في الحكم بالعنف بالرغم مما يدعونه بالفترات الانتقالية؟! وهكذا، فالأمر دوامة لا تنتهي.
من الملاحظ ان الانقلابات العسكرية قد ساعدت وعززت بطريقة غير مباشرة او حتى مباشرة في الاتجاه الي مأسسة العنف المسلح. ذلك ان النزاعات والانقلابات العسكرية المسلحة التي تحدث الان في عدة دول في افريقيا قد قسمت الي ثلاثة انواع من الناحية التاريخية
- نزاعات مسلحة خارجية موجهة ضد الدول الرأسمالية – الصناعية عادة.
- نزاعات مسلحة اقليمية بين البلدان الافريقية فيما بينها.
- نزاعات مسلحة داخلية او حروب اهلية وهذه النزاعات الاخير اي الانقلابات العسكرية الداخلية هي ما يشكل جوهر الصراع على السلطة في ظل الصراعات بين القوي الامبريالية الروسية الصينية والفرنسية الامريكية. وقد بلغ عددها خمسة في فترة زمنية قصيرة. والان نلاحظ هذا النمط الزمني: كيف ان النزاعات المسلحة بدأت تتحول فجأة بعد غزو روسيا لأوكرانيا الدولة ذات السيادة في اوروبا الي نزاعات مسلحة اقليمية داخلية في افريقيا. بالرغم من ان من يقود الانقلابات من العسكر يقول انها موجهة ضد الامبريالية الفرنسية ولكنهم يرفعون اعلام الامبريالية الروسية ومؤسسة مرتزقة فاغنر؟! ولا يخفي ان اغلب هذه الانقلابات العسكرية في هذه الفترة كانت اما بتمويل او بدعم خارجي فروسيا تستفيد من جني مليارات من الدولارات من خلال ما تصدره من اسلحة فتاكة للعسكر هناك وما تخضه مؤسسة فاغنر من دولارات لروسيا مما تنهبه من الالماس الافريقي اما فرنسا فهي تخترق الجانب الاقتصادي عبر شركات سواء كبيرة او صغير فهي في علاقة هيمنة بالاقتصاد الافريقي اضافة لاستخراج المادة الداخلة في الطاقة النووية التي تستخدمها فرنسا لأشغال مصانع الطاقة النووية الخ.
ضمن اطار الخطاب الدعائي للعسكر والذي يركز بشكل اساسي على قضية الامن القومي ومسألة السيادة لذر الرماد في العيون فقد اصبح طرح قضية الامن القومي والسيادة الوطنية الشغل الشاغل للانقلابات العسكرية في ظل الوقت الراهن وتعدد مراكز الامن في الإمبرياليات سواء الناشئة الامبريالية الروسية والصينية اي الامن الروسي والامن الصيني او الامن الامريكي والامن الفرنسي فيما يخص افريقيا والذي يعطي مسوغ لانتشار ظاهرة السكريتاريا على نطاق افريقيا وما يصاحبها من التسلح العبثي واستعمال العنف المسلح بهذا الشكل الرهيب خصوصاً في السودان وليبيا وسوريا والكرة الان في الملعب النيجيري والغابون ومالي وبوركينا فاسو ودول افريقية اخري. وتصبح قضية الامن القومي والسيادة في النظام السياسي المخترق ذات اهمية استثنائية فبدل من ان تكون قضية السيادة حلماً او هدفاً لشعوب الدول الافريقية للفكاك من قبضة الدول الامبريالية الخانقة، يدخل العسكر هنا على الخط ليقطعوا على هذه الشعوب حالة التحرر هذه، ولذلك كانت حالة الاستقطاب السياسي والاجتماعي والفساد ومسلسل العنف الذريعة التي تذرع بها العسكر للاستيلاء على الحكم. وجرت الانقلابات فيما يشبه حركة الدومينو من مالي الي بوركينا فاسو الي النيجر الي الغابون وكان هناك نمط زمني في توقيت الانقلابات فهناك تشابه كبير في هذه الانقلابات بدء من مالي حيث خرجت منه القوات الفرنسية. لقد كان الهدف الاول المعلن لمعظم الانقلابات العسكرية هو تحقيق (الامن والاستقرار) هاتان الكلمتان او مرادفاتهما ستردان في اغلب (بينات رقم واحد). وسنري بعد قليل ان المقصود كما هو حادث بالأمس عند تنصيب جنرال الحرس الجمهوري رئيسا للبلاد عبر استعراض جنرالي ووضع نياشين وكأنه منتصر في حرب كونية؟! المقصود هو تحقيق وضع قائم (status quo) ناجز جديد يستمد شرعيته في المقام الاول من القوة السافرة ومؤسسة العسكر والعنف المسلح والارهاب المنظم وهنا فأن الانتماء الايديولوجي للعسكر يلعب دوراً كبيراً في الانقلاب العسكري، والنتيجة اولاُ ان حكم العسكر في افريقيا ينتهي دائماً بدكتاتورية عسكرية يهيمن عليها كلية شخص واحد. وثانياً ان الانقلابات العسكرية و (الانقلابات المضادة) كما في السودان يخطط لها وينظمها وينفذها الجيش ومن اجل الجيش او المليشيا الجنجاويد ومن اجل هذه المليشيا وكذلك في النيجر والغابون ومالي وبوركينا فاسا الخ. وذلك من دون او مع قليل من التأييد الشعبوي من حركات وتنظيمات سياسية او طبقات اجتماعية، ثالثاً: ان العلاقة بين الطبقة الاجتماعية والسياسية قليلة الفائدة او تنعدم فائدتها في تفسير نوع السلطة، او نظام الحكم، او الايديولوجيا التي سيتبناها العسكر في الحكم. وسوف نناقش هذه النقطة الثالثة لأهميتها لاحقاً
في علاقة العسكر مع الطبقة الاجتماعية والسياسية ونوع السلطة او نظام الحكم او الايديولوجيا التي يتبناها العسكر في الحكم. هذه النقطة التي توصلنا لها سابقاً وسوف نناقشها في ضوء الادلة المادية. فالجيش لا يستطيع ان يعمل مستقلاً عن الطبقات ولا أن يحافظ على حياده الأيدلوجي طويلاً. فالجيش ان تصرف باستقلالية في بداية الانقلاب فلا بد له ان اراد ان يبقي في الحكم طويلاً ان يتحالف مع طبقة مهيمنة او ان يخلق هو طبقة مهيمنة جديدة، وهو ما حدث في الانقلابات العسكرية السابقة. وهنا يكون الدافع في عدم توضيح العسكر لانتماءاتهم الايديولوجية او ولاءاتهم الحزبية في بداية الانقلاب، هو رغبتهم في تقديم أنفسهم كممثلين (ومنفذين) للمطالب الشعبية و (منفذين لإرادة الشعب) وهنا يستخدم العسكر مناداتهم بالأمن والاستقرار، لا لتبرير استيلائهم على السلطة فحسب، وانما لتصفية كل المؤسسات الدستورية والديمقراطية في البلاد. صحيح ان العسكر لم يأتوا او لم يقوموا بالانقلاب بتأييد ومساندة قوي المعارضة السرية او العلنية وصحيح أيضاً ان الانقلابات العسكرية قد قوبلت بارتياح شعبي على امل ان تنكسر دائرة الاستقطاب والجمود وان يتوقف مسلسل العنف الفردي والجماعي كما هو حادث في الغابون وجود رئيس البلاد على سدة الحكم لمدة طويلة في الحكم وكذلك حالات تزوير الانتخابات في النيجر ومطالبة مرشح الرئاسة الخاسر في الانتخابات العسكر بتسليمه السلطة وهو مالم يحدث؟ ولكن هل ستعود الجيوش الي ثكناتها بعد ان حققت ما كانت تدعي ان البلاد بحاجة ماسه له؟ انظمة الحكم العسكرية لن تحقق حسب ادعاءاتها الامن والاستقرار والاستقلال فسوف يتصاعد معدل العنف الفردي والارهاب المنظم للدولة من جهة كما هو الحال في السودان بينما لن يتبدل نمط تشكيل الوزارات المتصل عما كان في السابق. من جهة اخري حيث سيم زيادة نسبة العسكر في الوزارات وهو مؤشر دقيق للازمات السياسية التي مر بها نظام حكم العسكر عامة ومؤشرا لعزلتهم السياسية عن عامة الشعب. ولذلك فإن العسكر (جنرالات القيادة العسكرية) لم يكونوا من البداية يفكرون بتحقيق الامن والاستقرار ثم يعودون الي ثكناتهم، وانما كانوا يفكرون بطريقة اخري مختلفة كلية : ان سبب فقدان الامن وعدم الاستقرار في تصورهم هو تعدد الآراء واختلاف الميول وتكاثر الاحزاب والتنظيمات كما هو حادث في الانقلاب في السودان ومن ناحية اخري الفترات الطويلة لحكم اسرة او حزب واحد كما هو في تجربة النيجر والغابون التي تدعم هذا الاختلاف وتذكي روح (الفرقة) بين المواطنيين وتدفعهم الي التعصب واستعمال العنف في حل الخلافات او تدخلهم في حرب اهلية بين القبائل. لذلك حتى يتحقق الامن والاستقرار فلا بد من حل الاحزاب وان كان لابد من وجودها فالتضييق عليها وخنقها تدريجياً لمصلحة الحزب الحاكم او التنظيم الذي يدعمه العسكر.
كل الانقلابات العسكرية التي حدثت مؤخراً ادعت انها ستقود البلاد من خلال مرحلة انتقالية وشاهدنا كيف كان وضع هذه المرحلة الانتقالية في السودان. هذا المنطق الذي طبل له الجنرالات، هو بداية القضاء على الحريات (الديمقراطية) والضمانات الدستورية في البلدان الافريقية التي تتعرض الان للانقلابات في الساحل الافريقي. ولكن لننظر الي هذا الربط المغرض والماكر والخاطئ، بين العنف وعدم الاستقرار السياسيين من جهة، وبين الديمقراطية ممثلة بالبرلمانية وتعدد الاحزاب من جهة اخري. اذ إنه من البين الجلي ان ممارسة الديمقراطية لا تعني بالضرورة ان يلجأ المواطنون الي العنف لحل خلافاتهم، بل ربما العكس تماماً. ولا ننسي ان الديمقراطية ومؤسساتها قد تعرضت للتزييف ما بعده تزييف على ايدي الفئات الحاكمة في ظل هيمنة العسكر ضمن دائرة الظل حتى اصبحت مهزلة واضحوكة. فالعيب اذن حسب منطق العسكر، ليس في تزييف الفئات الحاكمة لمطالب السكان بالحريات الديمقراطية (اي حرية التعبير، وحرية الاعتقاد، وحرية الانتخاب، حكم الاغلبية وحق محاسبة الحكام) والضمانات الدستورية (اي تحديد الحقوق والواجبات، فصل السلطات، المساواة امام القانون، سيادة القانون) وانما فيهما أصلاً. وقد تولدت من هذا الربط بين العنف والفساد والتزوير وعدم الاستقرار وبين الديمقراطية والدستورية الخرافة القائلة بأن الحزبية شر وان الديمقراطية منكر ومن الغريب المحزن ان عدداً لا باس به من المثقفين والمفكرين انبري – ولا يزال ينبري – الي تنظير ان السبب في ظهور ظاهرة الانقلابات هو فقط راجع للوجود العسكري الفرنسي والاستعمار والامبريالية والذي يغض فيه الطرف عن الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الداخلي لهذه الانظمة التي حدثت فيها الانقلابات العسكرية ويركز فقط على البعد الخارجي وهي نظرة تكررت كثيراً في ظل ما يسمي باليسار الممانع والمقاوم ؟! (وسيناريوهات هذا اليسار الممانع والمقاوم بأن قرار العسكر بالانقلاب على نظام الحكم وبإنشاء دولة تسلطية قد خضع كلية لتداعي الاحداث في هذه الدول الافريقية فهم في البداية سوف يطهرون النظام السياسي والدولة من الفساد والتفاوض مع من يمثل الوجود العسكري الفرنسي قبل اعادة البلاد الي الديمقراطية) وهذا اليسار الممانع لا يعي بأن هذا سوف يقود الي مزيد من الاجراءات التسلطية. وكلما ازدادت هذه الاجراءات التسلطية سيتبين للجنرالات تدريجياً قوتهم وانهم يمثلون ارادة الشعب. وهذا سيقود العسكر الي الاقتناع بأن تحقيق هذه الارادة الشعبية بالاستقلال والتنمية لا يمكن ان يتم بواسطة البرلمان وتعدد الاحزاب. وهنا ستلعب الشهوة للسلطة والقوة والثروة دورها في تفكيرهم (وما يرافق السلطة والقوة والثروة من مميزات مادية ومعنوية، طبعاً وهذا ما نشاهده في صراع الجنرالات في السودان ويمتد الي باقي الانقلابات العسكرية).
مما يساعد العسكر ويوطد حكم العسكر لنظام تسلطي عسكري، ان بعض الاحزاب والتنظيمات الحزبية القديمة كما رأينا في السودان وبقية الانقلابات العسكرية كانت مستعدة لإعانة العسكر ودعمهم مثل احزاب الاسلام السياسي او الاحزاب الانتهازية التي تبحث عمن يوصلها للسلطة وبالتالي اما ان تسيطر على السلطة او تتواطئي معها في الحكم ولكن العسكر هم الاكثر شهوة للسلطة والنفوذ والقوة والثروة فسوف تكون هي من تشكل المجلس العسكري سواء الانتقالي او الدائم. ومن هنا بدا الناس يعون تدريجياً ان الانقلابات العسكرية لم تكن ظاهرة زائفة مؤقته، وخصوصاً عندما يضع العسكر اسس التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الجديدة، فهم اذن يخططون للبقاء امداً طويلاً، ولذلك فهم بحاجة الي مصدر، او مصادر، للشرعية غير القوة السافرة والعنف المسلح تصلح لتبرير استمرار بقائهم في الحكم. اذن فقد جاء العسكر للحكم لكي يبقوا، وكانوا قد وطدوا العزم على ذلك منذ البداية وكثير من اليسار الممانعة والمقاومة يقدمون الاعذار ويبررون عدم اعادة السلطة الي المدنيين اما بسبب حرصهم على المصالح للبلاد وعدم ثقتهم بالسياسيين التقليديين والقوميون القدامى ورثة الحزبية والاستعمار، واما بسبب المرحلة الاستثنائية الحرجة التي تتعرض لها البلد في ظل صراعات عالمية في القارة الافريقية واعادة تقاسمها بين الإمبرياليات، فمن الواضح ان العسكر كانوا بحاجة الي انجاز سريع يضفي صفة الشرعية على قرار بقائهم في الحكم. وقد وفرت قضية طرح مسألة الاستقلال الناجز؟ وذلك بعد خروج القوات الفرنسية من مالي عبر تحالف العسكر مع مجموعة فاغر في الضغط على فرنسا وهكذا دواليك انكرت السبحة وكانت مصدر دفعة قوية لحكم العسكر واعطاءه مصدراً اولياً من مصادر الشرعية السياسية. فاذا كان ممكناً للعسكر ان يحققوا ما عجزت عنه الحكومات المدنية في فترات طويله من الكفاح، فإن ذلك حري بأن يجعل من العسكر ابطالاً قوميين بين ليلة وضحاها. بالرغم من وضع ماكرو – فرنسا خططا للانسحاب المخطط الطويل من دول الساحل الافريقي منذ ٢٠١٧. ولم تبقي في خريطة العالم الجديد بعد الحرب العالمية الثانية (دولة مستعمرة تابعة) حسب المفهوم البريطاني – الفرنسي، وإنما (دول وطنية تابعة) حسب المفهوم الامريكي. وحتى نفهم الفرق بين المفهومين لا يكفي ان نعرف الفرق بين الاستعمار والامبريالية (باعتبارهما مرحلتين متداخلتين متعاقبتين) فقط، بل علينا في ظل الصراعات العالمية الراهنة معرفة الفرق (او الفروق النوعية) بين الامبريالية الامريكية والبريطانية والفرنسية والامبريالية الروسية والامبريالية الصينية المبنية كلها على هيمنة الرأسمال الاحتكاري.
كيف تأتي الانقلابات العسكرية والتي تتحول من جماعة استولت بالقوة على السلطة السياسية في كل من مالي والنيجر وبوركينا فاسو والسودان الي ان تتحول الي طبقة مهيمنة متسلطة اجتماعياً واقتصادياً وحضارياً؟ هناك تيارات فكرية رئيسية في تفسير العلاقة بين العسكر والمجتمع وفي تحديد انتمائهم الطبقي. فهناك تيار يري أن أحد بدائل التنمية السياسية والتحديث هو الاوليغاركية العسكرية العصرية. باعتبار ان العسكر يمثلون المؤسسة الاجتماعية الوحيدة المنظمة في العالم الثالث، التي يمكن ان تكون وسيلة للإصلاح والتحديث، ويعتبر هذا الفكر ان العسكر هم الفئة الطليعية من طبقة وسطي جديدة وتوظف من بين صفوف الملاك والتجار. وهي طبقة حدية لا تدين بالولاء الي القيم والاتجاهات التقليدية التي كانت تقيد الطبقة الحاكمة. اما التيار الثاني الفكري يري بأن العسكر لا يمثلون طبقة، وان الدور الذي يعطي لهم كقوة ممثلة وموحدة للطبقة الوسطي الجديدة وكقوة محدثة مطورة في المجتمع هو دور غير واقعي. وما العسكر الا نخبة اجتماعية تعمل لمصلحتها الخاصة وتوظف من مختلف الطبقات في المجتمع وتختار الايديولوجيا التي تناسب مصالحها الخاصة وتديم هيمنتها وسيطرتها على المجتمع. وهناك تيار فكري ثالث وكان تحت تأثير الاتحاد السوفيتي او الاوربي الشرقي، بأن ضعف البورجوازيات الوطنية في مرحلة الامبريالية قد حول المسئولية الي الدولة ولذلك فبإمكان الدولة في العالم الثالث ان تحقق التطور والتنمية في (الطريق اللا راسمالي) (المستقل عن الدول الرأسمالية الغربية) فيما يسمي برأسمالية الدولة. ولذلك فمن الطبيعي ان تسمي الطبقة التي تسيطر على الدولة (بورجوازية الدولة) التي يمثل العسكر أحد اجنحتها او فئاتها. ولكن لا بد من ان يتم حسم الامر مبدئياً لفهم ترابط ظواهر الانقلابات التي حدثت بالتسلسل في السودان ودول الساحل الافريقي. ان تحالف العسكر مع القوميين العقائديين والاخوان المسلمين والتكنوقراط قد انبثق من صلب الفئات الطبقية التي تحتل موقعاً وسطاً في السلم الاجتماعي ومع ان هذه الطبقة غير موحدة ايديولوجياً او سياسية (من اقصي اليمين الي اقصي اليسار) كما هو حال السودان والقوي الممثلة في ما يسمي بقوي التغير والحرية الا ان تجربتها خلال المرحلة الانتقالية بينت انها واعية بمركزها الاجتماعي وبمصالحها المادية والسياسية وهي في بدايتها كانت موحدة في كرهها ومعاداتها للفئات الحاكمة القديمة (فترة حكم البشير)، وقد كانت عوناُ اساسياً للعسكر في تفكيك الطبقة الحاكمة القديمة وفي الحد من تهديدها للفترة الانتقالية ؟ لذلك فعندما نقول ان تحالف العسكر – القوميين العقائديين – والاخوان المسلمين – والتكنوقراط يمثل حكم الطبقة الوسطي لا نعني ان هذا التحالف قد استولي على السلطة باسم الطبقة الوسطي او الفئات الوسطي، او انه يعمل لمصلحة هذه الطبقة بشكل منتظم (فهي مشتتة موزعة مطاطة انتهازية)، انما يعني بذلك انه يمثل الطبقة الوسطي لأنه مستمد منها منبثق من صلبها، خرج الحاكمون العسكر الجدد من بين صفوفها واحتكروا السلطة والقوة في المجتمع بالنار والحديد في السودان وحجبوهما عن ممثلي الطبقات الآخرى. وللإجابة على السؤال الذي طرحناه في بداية هذه الحلقة كيف تأتي لتحالف فئات الطبقة الوسطي هذا التحول من جماعة استولت بالقوة على السلطة السياسية الي طبقة تبحث عن الهيمنة متسلطة اجتماعياً واقتصادياً، فذلك امر سنناقشه لاحقاً
ما هي مصائر الدول التي حدثت فيها الانقلابات وفي ظل هيمنة العسكر؟ هذا ما يمكن تسميته (الاحتكار الفعال للقوة) في المجتمع اي احتكار مصادر السلطة والقوة الاجتماعية وليس مقاليد الحكم فقط. فالاستيلاء على مقاليد الحكم من قبل (العسكر) التي لا دور لها في عملية الانتاجية او في العملية السياسية وتعتمد على استعمال القوة السافرة والعنف المسلح في فرض هيمنتها سوف لا يدوم طويلاً لهذا نجد انه في كل الانقلابات العسكرية التي حدثت في افريقيا سوف تبحث عن مصدر ما لشرعيتها كما حدث في النيجر ومالي وبوركينا فاسو فقد طرحوا قضية الاستقلال من الهيمنة الفرنسية وتبنوا في ذلك الايديولوجيا القومية ولكن لكي يستبدلوا الامن الفرنسي بالأمن الروسي والامريكي اما في السودان فالجنرالات البرهان وحمدان دقلو كل يبحث عن تحالف يجيره لمصلحة شرعيته هناك الاخوان المسلمين وهناك قوي التغيير والحرية. والهدف القادم للعسكر لا بد ان يكون تحقيق الاحتكار الفعال للقوة لذلك في السودان هناك كسر عظم بين الجيش والمليشيات المتمردة لحسم الصراع على السلطة. هناك عادة ثلاثة مصادر للقوة والسلطة في المجتمع. اولاً القوة المستمدة من الكثرة العددية. ثانياً: القوة المستمدة من التنظيم الاجتماعي (القبلية هنا) كقوي منظمة. والثالث: القوة المستمدة من ملكية الموارد المادية (كالأملاك والثروة) وهنا يضاف عامل اخر القوة المستمدة من دعم مليشيا فاغنر لقوات الدعم السريع. فالخطوة الاولي التي سيقوم بها العسكر هو استيلاء العسكر على الحكومة اي استهداف الاستيلاء على الدولة بالكامل، اي شبكة المؤسسات المركبة التي تشكل الحكومة (الوزارات). فسوف يقوم العسكر بحل البرلمان والمجالس المنتخبة والقيام بتعيين الضباط في الوزارات وفي المراكز القيادية الآخرى. وفي اجهزة الحكم المحلي، وفي بيروقراطية الدولة حتى مستوي مدير ادارة. وسوف يقتضي تحقيق هذه الخطوة طرح العسكر لأنفسهم كجماعة تضامنية تمثل الجيش على شكل مجلس قيادة المرحلة الانتقالية وهذه الخطوة التي لا تزال عالقة في السودان لان هناك جيشان بينهما صراع تناحري على السلطة. الخطوة الثانية سوف يستخدم العسكر القوة المنظمة للدولة وشرعيتهم كسلطة بالقضاء او السيطرة على كل اشكال القوي المنظمة الآخرى كالأحزاب والتنظيمات السياسية اي باختصار، الاستيلاء على النظام السياسي بأكمله ولتحقيق هذه الخطوة سوف يقتضي تعليق الدساتير والغاء الضمانات الدستورية، وكذلك الغاء اغلب المكتسبات الديمقراطية وما سيترتب عليه من استمرار الحكم بموجب قوانيين الطوارئ والاحكام العرفية. وهكذا سوف يعطي العسكر لمجلس قيادة العسكر ومن يسيطر عليه وظائف التشريع والتنفيذ والاشراف على القضاء او بعض مؤسساته في وقت واحد اي سلطة سياسية واجتماعية لا حدود لها وعندما تخلوا الساحة من القوي الاجتماعية المنظمة التي قادت الثورة ضد البشير في السودان مثلاً سوف يحاول العسكر ان يخلقوا تنظيمات مصطنعة او يطورا تنظيمات سابقة كالإخوان المسلمين من صنعهم لتحل محلها اي محل التنظيمات اليسارية والقومية.
تجربة العسكر في ظل المرحلة الانتقالية وبالذات في تجربة الانقلاب العسكري في السودان وكذلك في التجارب الآخرى الانقلابات العسكرية في الساحل الافريقي، فهي سوف تقوم بالتعلم من التجربة المرحلة الانتقالية الفاشلة في السودان حيث نشطت في ثورة السودان النقابات والتجمع المهني في جر الجماهير تحت شعار حرية كرامة عدالة اجتماعية. فهذه الانظمة العسكرية تريد استئصال مصادر القوة العددية كالنقابات العمالية والاتحادات والتنظيمات المهنية الآخرى.. حتى لا تتحول مرة ثانية الي مصدر للمنافسة او جسر لبناء قوي منظمة جديدة خارج دائرة سيطرة حكم العسكر كما حدث في الثورة الاخيرة في السودان. وسوف تحاول ان تسيطر على هذه النقابات والتنظيمات المهنية كوسيلة للسيطرة والتلاعب وسوف تقوم بالسيطرة على جميع وسائل الاعلام بما فيها العالم الافتراضي والسيطرة على جناح لا باس به من المثقفين وقادة الفكر والراي لاستخدامهم في الدفاع عن حكم العسكر في القنوات المرئية والمسموعة والمقروءة، هنا ندرك القوة الهائلة والسلطة التي لا حدود لها التي سيحققها العسكر بهذه الاجراءات. أضف الي ذلك محاولة التوسعة الكبيرة التي طرأت على اجهزة المخابرات والمباحث ومحاولة استعمال بعبع (الامن القومي والسيادة) او (امن الدولة) كذريعة لمأسسة العنف المسلح والارهاب المنظم الذي يمارسه العسكر عن طريق استيلائهم على، واحتكارهم، اجهزة الدولة والنظام السياسي. وهنا سيقوم العسكر باستيعاب عملية التسيس – التجذير وتوجيهها بما يخدم مصالحهم الخاصة وترسيخ حكمهم بشكل خاص. وبهذه الطريقة يتضح لنا كيف ان العسكر باستعمالهم هذه الاجراءات سوف يعزلون عامة الشعب وقواه وتنظيماته عن كل مشاركة شعبية في الحكم، وكيف سيقوم العسكر باتخاذ القرارات المصيرية في السر ثم يعلنوها بشكل مفاجئات بهلوانية واستعراضية وكما شاهدنا في كل الانقلابات العسكرية سواء في السودان او الساحل الافريقي اي اقتصار دور السكان على التأييد والتهليل والتطبيل والترميز في ملاعب كرة القدم؟! اما الخطوة الرابعة: في سعي العسكر لتحقيق الاحتكار الفعال لمصادر القوة والسلطة في المجتمع فسوف يزيد من استهداف المجال المادي وهو مصدر القوة الاجتماعية والاقتصادية المستمدة من تعزيز ملكية العسكر للأراضي والرأسمال والثروة سواء الحيوانية او الزراعية او المعدن النفيس الماس (اي القوة المادية) حيث تستحوذ على الثروة القومية للبلاد. اذن ان الانقلابات العسكرية ومجيء العسكر الي الحكم واختلاقهم للتنظيمات الاجتماعية والسياسية التي سوف تساعد على استمرار احتكارهم لمصادر القوة والسلطة والثروة في المجتمع وستكون ميلاد طبقة جديدة، وهي الطبقة التي تملك الدولة التي تملك كل شيء في المجتمع – الا وهي الدولة التسلطية بقيادة العسكر.
المرجع: كتاب – الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر. للكاتب الدكتور خلدون حسن النقيب.