ديك الجن … عاشق ورد

حَدُّ ما يُنكَحُ عنـدي =  حَيـوانٌ فيه روحُ

أنا من قولـي مَليحٌ = أو قبيحٌ مسـتريحُ

كلُّ مَنْ يمشي على = وجهِ الثَّرى عندي مَليحُ

اعتبر الحياة رحلة لذة وشهوات وشبق، أنفق معظم حياته في اللذة المادية في شتى أشكالها وألوانها. انكب على اللذات انكباباً مطلقاً فأدمن معاقرة الخمرة ومطاردة الفتيات والنساء والغلمان، جرياً وراء اللذة المادية الجسدية، ولم يعرف الحب الإنساني الذي ينهض على أساس من العواطف النبيلة والمشاعر الرقيقة. لم يفرّق بين ذكر أو أنثى، فتاة أو امرأة، جميلة أو قبيحة. وقد قال في ذلك الأبيات المذكورة في المقدمة. هو عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب الملقب بديك الجن. شاعر مجيد من شعراء العصر العباسي، ولد في حمص وفيها كانت وفاته.
كثرت الروايات في سبب تسميته بـ ديكَ الجنِّ، فمنهم من ربط بين ألوان الديك المتنوِّعة وعيني عبد السلام الخضراوين. ويرى بعضهم أنه عُرف بديك الجن لأنه رثى ديكاً لأبي عمرو عمير بن جعفر كان قد ذبحه وعمل عليه وليمةً.. ومنهم من ربط بين جنونه وتقليده صوت الدِّيك، ولكن دارسيه أجمعوا على بطلان هذا السبب، والاتفاق على أنه لُفِّق بعد وفاته، لأنَّهُ لم يعرف عنه الجنون قط. والمعروف عن ديك الجن بأنه لم يتكسب من شعره حيث لم يمدح خليفة ولا غيره، بل ولم يرحل إلى العراق رغم رواج سوق الشعر فيه في زمنه ، فبقي شعره ضمن الحدود التي عاش فيها مركزا على العشق والغرام. هناك شبه إجماعٍ من مترجميه ومؤرخيه على أنه كان شعوبياً شديد العصبيَّة ضد العرب، وقد ذكر له أبو الفرج الأصفهاني قوله: «ما للعرب علينا فضلٌ، جمعتنا وإياهم ولادة إبراهيم (عليه السلام)، وأسلمنا كما أسلموا… ولم تجد الله عز وجلّ فضَّلهم عليهم، إذ جمعنا الدين». من الغريب أن يصدرَ مثل هذا الموقف والكلام عنه في حين أنَّ ظاهر شجرة نسبه وأصول أسرته تدلان على أنه عربي من قبيلة عربية، فأسرته تعود في أصولها إلى قرية مؤتة التي هي من قرى الشام، وتقع اليوم شمالي الأردن. ولكن ديك الجن يحسم الموقف عندما يعلن بصريح العبارة عدم انتمائه للعرب من أيِّ باب بقوله الذي ورد في كل طبعات ديوانه:

إنْ كَانَ عُرْفُكَ مَذْخُوراً لِذِي سَبَبٍ    

فَاضْمُمْ يَدَيْكَ فَإنَّي لَسْتُ بِالعَرَبِي

إنَّي امْرُؤٌ بَازِلٌ فِي ذُرْوَتَيْ شَرَفٍ                            

لِقَيْصَرِ وَلِكِسْرَى مَحْتَدِي وَأَبِي

ويردد المؤرخون حكايته مع حبيبته وزوجته ورد، واختلفوا في اسم هذه الحبيبة ودينها ونسبها ومكانها ومهنتها. وأقرَّت الأغلبية أنَّ اسمها ورد، وليس ما بعد ذلك مهم، فقد تزوجها عبد السلام، وهام في حبها، ومن أوائل ما قال فيها:

انظر إلى شمسِ القصورِ وبدرها‏

وإلى خُزاماها وبهجة زَهرها‏

لم تبلُ عينكَ أبيضاً في أسودٍ‏

جمع الجمال ُ كوجهها في شَعرِها‏

ورديةُ الوجناتِ يختبرُ اسمها‏

من ريقها من لا يحيطُ بخُبرها‏

واتخذت قصته مع ” ورد ” شكلاً مأساوياً محزناً لأنّ ” ورد ” ماتت بسيف حبيبها بسبب مؤامرة دبرت من أحد أقاربه . فمن هي ” ورد ” التي حول موتها حياة ديك الجن إلى جحيم وأوصله إلى حافة الجنون .‏ورد كما تذكر الكتب والمراجع القديمة هي فتاة من مدينة حمص أو ربما من ريفهاالتقاها ديك الجن وطاردها كما كان يطارد فتيات كثيرات قبلها . لكن هذه الفتاة سيطرت عليه بحبها وجمالها، ولم يستطع الإفلات منها. وذاعت قصة حبه لها في المدينة وهذا الأمر لم يرض عائلة الشاعر وأقاربه وخصوصاً ابن عمه الذي كان يعارض مجونه، واعتبر هذه الحكاية إثماً جديداً من آثام ابن عمه الماجن الذي خرج على تقاليد الأسرة المحافظة . ورغم ما لاقاه من زجر ومعارضة إلا أنه لم يستمع إلى أحد، وعرض على ” ورد “، المسيحية الجميلة الدخول الى الإسلام ليتمكن من الزواج بها ، فأعلنت إسلامها على يدي حبيبها الذي تزوجها فانتقلت معه إلى منزله.‏أما حالته المادية فقد ضاقت كثيراً بسبب مجونه وإسرافه وتبذيره فلجأ إلى صديقه أحمد بن علي الهاشمي في سلمية وطال به المقام هناك، فانتهز ابن عمه الحاقد قصة سفره ودبر مكيدته التي أودت بحياة ” ورد ” إذ نسج قصة حب وهمية بين ” ورد ” وغلام ديك الجن وبدأ ينشر القصة ويروجها في المدينة حتى وصلت أخبارها إلى سلمية وعندما سمعها ديك الجن جُنّ جنونه فاستأذن من صديقه وأقفل راجعاً ليتأكد من صحة هذا الخبر .. ولكي يوغر ابن عمه صدر شاعرنا أرسل إليه من ينتظره على أبواب حمص لتأكيد خيانة ورد له.‏ وعندما وصل إلى بيته استقبلته حبيبته استقبال من أضناه الشوق لكن ديك الجن قابلها بفتور والشرر يتطاير من عينيه .. ولتدعيم صحة القصة الملفقة التي حاكها ابن عمه الحاقد أرسل من يطرق الباب عليهما ، ولما سأل ديك الجن من الطارق أجابه فلان .. أي الغلام الذي اتهمت به وهنا استلّ شاعرنا سيفه من غمده وهوى به على عنق “ورد”‏التي سقطت صريعة تتخبط بالدماء بسبب مؤامرة دنيئة وبعد هذا المشهد المأساوي ردد ديك الجن قائلاً:‏

خنت سرّي مواتيهوالمنايا معاديه‏

أيها القلب لا تعدلهوى البيض ثانيه‏

خنت سري ولم أخــنك فموتي علانيه‏

وتبدأ مأساة ديك الجن بعد موت حبيبته واكتشافه لتلك المؤامرة البغيضة التي ذهبت ضحيتها ” ورد ” فيصاب بصدمة عنيفة ويبدأ برثائها وهو في أشد حالات الهذيان :‏

أساكن حفرةٍ وقرار لحدٍ‏

مفارق خلّة من بعد عهد‏

أجبني إن قدرت على سؤالي‏

بحق الود كيف ظللت بعدي‏

وأين حللت بعد حلول قلبي‏

وأحشائي وأضلاعي وكبدي‏

تقول بعض الروايات بأنه بعد أن قتل “ورد” احرقها وصنع من رمادها كأسا لخمره، يشرب منها ويبكي شجنا وحسرة، لكن هذه الرواية غير مؤكدة، وهناك من قال أنه صنع هذا الكأس من رماد أحد غلمانه الذي عشقه. توفي ديك الجن في مدينةحمص عام 236 للهجرة وبهذا يكون قد عاش خمساً وسبعين عاماً كانت أقساها السنوات التي تلت موت ورد.‏