كان يقف بعيدا وبالكاد يقترب منا.. ذاك الشاب النحيل صاحب النظارات الذي لا يبتسم ولا يشاركنا الضحك والدعابات الصاخبة التي تعودنا عليها في زمن الصفاء الذي مضى في نهاية الستينات. كان ينظر الينا من خلف نظارته نظرات كلها أمل مثل غيمة دافئة ممطرة بعيدة.
وكان واضحا انه انسان خجول او يحتاج الى وقت كي يندمج ويتفاعل مع اعضاء نادي الولعة الذي كان يقع في منطقة “ارض مصطفى” او القضيبية كما كان يطلق عليها البعض. اثارني منظره وصمته وانعزاله وقلت في نفسي هذا الشاب لديه الكثير. فاقتربت منه وبدأنا نتعرف ونتحدث.. اجتذبتني شخصيته الهادئة الملفوفة برداء الخجل وفوجئت انه قارئ نهم وله محاولات في كتابة القصة القصيرة، وبعد ان توطدت علاقتنا اطلعني بعد الحاح على تجاربه القصصية التي وجدتها قصصا تتبع الاتجاه الواقعي الملتزم. شجعته على الانضمام الى اسرة الادباء والكتاب كي يتمكن من صقل تجربته لكنه كان مترددا وكان يرى ان الوقت لم يحن بعد للانضمام وانه يعتقد ان تجربته في الكتابة ما زالت في بدايتها ولم تنضج بعد. كان يعمل مدرسا ويقيم في بيوت العمال بالقضيبية “اللينات” التي تم بناؤها بعد رحيل بيوت السعف التي (احترقت او قضوا عليها!) مما يعني ان طفولته كانت في بيت فقير وعاش مع اهله ضنك العيش مما ولّد لديه حسا قويا بالصراع الطبقي الذي انعكس في العديد من رواياته فيما بعد وفي حياته النضالية الطويلة وتضحياته النابعة من عشقه لوطنه وايمانه بالعدالة الاجتماعية. عندما انضم الى اسرة الادباء كان عضوا نشطا وشكل تيارا قويا ذو افكار تقدمية. في عام 1975 سافرنا معا الى الجزائر لحضور مؤتمر الاتحاد الادباء العرب مع الشاعرين الصديقين علي عبدالله خليفة وابراهيم بوهندي. عرفت عبدالله خليفة انسانا صادقا واضحا ونقيا كفيروزات البحر.. جريئا في طرح آرائه الى حد القسوة ..قد تتفق معه او تختلف لكنه يجبرك على احترامه بسبب ما يتمتع به من شفافية وصدق ووطنية عالية تجسدت عبر تاريخه النضالي الطويل المضيء. لم يتقن التمثيل والمداهنة والنفاق والزيف السائد وهي ظواهر بدأت تهيمن على حياتنا السياسية والثقافية منذ سنوات قليلة مع الاسف. ربما هذه الاجواء غير الصحية هي التي دفعته الى الانعزال اكثر فاكثر والانكباب على الكتابة والفكر والابداع ليترك لنا ارثا ثقافيا غنيا نحسده عليه. لم يكن عبدالله روائيا على المستوى المحلي فحسب بل انه تجاوز الحدود الجغرافية ليقف في مصاف كبار الروائيين العرب وترجمت بعض رواياته الى لغات عالمية. فمنذ صدور مجموعته القصصية الاولى “لحن الشتاء” عام 1975 لم يتوقف عن الابداع فأصدر مجموعته القصصية “الرمل والياسمين” عام 1983 و”يوم قائض” عام 1986 ومن ثم انطلق في عالم الرواية فأصدر العديد من الروايات، منها: اللآلئ، القرصان والمدينة، “الهيرات”، اغنية الماء والنار، امرأة، الضباب، نشيد البحر ، الينابيع، الاقلف وغيرها مرورا بكتابه الفكري الثمين “الاتجاهات المثالية في الفلسفة العربية الاسلامية” في جزئيين عام 2005. كان شعلة وطاقة فكرية وابداعية لا تهدا ولا تنضب ..كتب الكثير من المقالات الفكرية التي اثارت الكثير من الجدل. كثيرون لم يفهموا هذا الكاتب الفذ فهاجموه وانتقدوه بشدة لأنه لم يكن يداهن او يجامل في التعبير عن رأيه… فظلمه (البعض) كعادتهم عندما يكرهون من لا يتفق معهم وكأنهم يحملون الحقيقة الكاملة ومن يختلف معهم يعتبرونه عدوا وخائنا وسلطويا!!! عبدالله لم يكن يحب القوالب ولم يكن يحب أن يكون مطية في يد أحد، حزبا او سلطة، مما أثار الزوابع حوله .. بل كان يدعوا الى التجديد في الفكر وان كل شيء يخضع للأسئلة والمساءلة لأنه كان ضد الجمود الفكري .
عندما اصيب بمرض السرطان الذي أودى بحياته، انعزل لكن ليكتب ويترك لنا ثروة فكرية وثقافية قبل أن يرحل.. لم يكن يريد شفقة من أحد لذلك لم يكن يشجع أحدا على زيارته وحتى أنه لم يكن يرد على المكالمات الا لماماً. انه الكبرياء وعزة النفس والعناد الرجولي ….