“ان الطبيعة قد خلقت آلاف الأمراء ولكنها لم تخلق سوى بيتهوفن واحد”.
أطلق الموسيقار الألماني العظيم بيتهوفن هذه العبارة الشهيرة أثناء عزفه في بيت أحد الأمراء حينما بدأ بعض الأمراء يسخرون منه، ثم مضى تاركا المكان بشموخ. أنه لودفيج فان بيتهوفن ولد عام 1770،
ولد في مدينة بون الألمانية وقد ظهرت عبقريتهمبكراوقدم اول اعماله وهو في الثامنة من عمره. وتحتوي مؤلفاته في الاوركسترا تسع سيمفونيات وخمسمقطوعات على البيانوواخرى على الكمانوألف العديد من المقطوعاتللأوبرا.كان أبوه يعملمغنيا بكنيسة البلدة وكان لا يفكر في غده أو في مسؤولياتهتجاه العائلة،ومع ذلك فإن الفضل يرجع إليه في اكتشاف موهبة بيتهوفن غير العادية في سن مبكرة. كانت صورة “موزارت” الطفل المعجزة” عالقة في ذهن والده .ففكرعلى الفور في أن يخلق من بيتهوفن معجزة مماثلة، كانت صورة طفولته الأولى تتبلور في وقفته على كرسيصغيرأمام مفاتيح البيانو والدموع تنهمر من عينيه، فقد كان والدهيجبره بقسوة على التمرين المتواصل دون مراعاة لطفولته وصحته.كان الوالد يعود متأخراً مترنحاً من الشراب،وبرفقته صديقه “توبياس” الذي كان يدرس البيانو للصغير بيتهوفن.فيوقظانه من فراشه ويجبرانه على التمرين حتى الصباح. وكانت مادة الرياضيات بالنسبة له مشكلة كبرى وظلكذلك طوال حياته حتى وهو على فراش الموت. عندما بلغ الحادية عشرة من عمره كان لا يتعلم شيئا غيرالموسيقى، وهذا يدلنا على أنه لم يتمكن من التعاطي والتفاعل مع الحياة المحيطةبه رغم حدة ذكائه وقوة استيعابه لأمور عديدة أخرى.
عندما ذهب بيتهوفن إلى فينا للمرة الأولى – وكان في السادسة عشرة من عمره – كان قد وصل إلى مستوى نادر في عزف البيانو،وكتب عدداً من الأعمال الجيدة .وكان ذلك في عام 1787 وقد اختار فينا بالذات لأنها كانت كعبةالموسيقى ومقر موزارت العظيم الذي كان في أوج مجده. عندما عزفلموزارت، لم يتأثر الأخير الذي كان قد استعرض أكبر مواهب العالم فيعزف البيانو ولكنه ذهل عندما بدأ بيتهوفن في الارتجال.في عام 1792 سافر بيتهوفن إلى فينا للمرة الثانية ليعيش في وسط التجربةالموسيقية الكبرى،وليواصل دراسته مع هايدن العظيم بعد أن كان موزارت قدرحل عن العالم وهو في عمر الزهور. وكان هايدن قد سمع عن عبقريةبيتهوفن عندما مر بمدينة بون عام 1790فبدأ في تدريسهعلى الفور واستمر يهتم به لمدة عام كامل لم يشعر فيه بيتهوفن بالسعادة لأنهلم يحقق ما كان يتمناه من علم الموسيقى على يد زعيم الكلاسيكيين ” بابا هايدن”أما من وجهة نظر هايدنفإنه لم يكن يعلم ماذا يفعل مع الشاب الريفي المتمرد .. فلم يتبعبيتهوفن أي قاعدة جاهزة عن ثقة .وكان هايدن قد عامله بأبوة ورعاية بعد أن تأكد من تقدمهالعاصف في مجالات التأليف والعزف الخارق للعادة على البيانو. كانالأرستقراطيون يتوقعون المديح والشكر والتبجيلوالانحناءات من الفنانينالذين يتلقون منهم المساعدات. ولكن بيتهوفن كان على النقيض من ذلك فلم يقبلأن يلتقي بأحد منهم إلاَّ على قدم المساواة على أقل تقدير حيث كان يعرف عظمة فنه ويحترم مكانته ويتميز بالإباء وعزة النفس، وهذه شيمة الفنان الحقيقي، حيث أن حياتهالأولى قد خلقت منه شخصية قوية الارادة،عاطفية، مندفعة ثائرة. كان يحب المشي ويحتفظ بورق الموسيقى الذي كان يدون عليه أفكاره أثناء المشي، وكثيراً ما كانيتوغل في غابات فينا ويجلس إلى جوار جذع شجرة لتدوين أفكاره.وقد أصبحتمسوداته هذه المرجع الرئيسي لأعظم أعماله،كما أن مدوناته أثبتت أنها تضمنت أضعاف ما خلفه من تراث موسيقي نادر. قادته عاطفتهوحساسيته المفرطة إلى الوقوع الدائم في الحب وكان يتوق إلى الزواجوالاستقرار ليتخلص من حياة التشرد.ولم تتحقق له تلك الأمنية ربما لأن أغلبالسيدات اللائي تقدم اليهن كن من طبقة اجتماعية أعلى من طبقته. في عام1798 بدأ بيتهوفن يشعر بالصمم -وهو التاريخ الذيحدده بنفسه لبداية الكارثةولم يأخذ هذه الأعراض مأخذ الجد في بادىء الأمرلأنه ربط بين هذا المرض وما كان يعاني منه من ضعف المعدةوالدوزنتاريا.وبعد ذلك بعامين بدأت الحقيقة تتأكد له..فأخفى المرضعن جميع الناس،لأنه شعر بالمهانة والعذاب مع ما كان يشوِّه وجهه منمرض لازمه منذ طفولتهوهو آثار لمرض الجدري و بدأ ينسحب من المجتمعات حتى لا يفتضح أمره. وفيسيمفونيته الأولى،كان كلاسيكيا رشيقا ولم يسمح لآلام أذنيه ولاأوجاعه العاطفيةأن تتدخل في تشكيل وجدان اللحن أو مضمونه.ولكنسيمفونية “البطولة” الثالثةأصبحت مجالاًرومانسيا خصبا للتعبير الشخصي..ولتدخل أحاسيسه بغير موضوعيةمجردة-لقد وجد فيها متنفساً للإفصاح عن إعجابه ببطل كان يراهيعمللخلاص البشرية ومعاداة الملكية المستبدة فأهداها لنابليون،وعندماكان يهم بإرسالها إليه في باريس، جاءته الأنباء التي أعلنت خيانة نابليونلمبادئه وتنصيب نفسه إمبراطورا وثار بيتهوفن ومزق صفحة الإهداء وكتببدلا منها “سيمفونية البطولة.. في ذكرى رجلعظيم “وأفصح أن هذا الرجل لا يزال يحيا بجسده، أما روحه فقد ماتت. و تبلورت مبادئه في كثير من المواقف منها خطابه إلى صديقهالأمير “ليشنوفسكي”: “أيها الأمير.. إن مكانتك وإمكانياتك، ترجع إلى الحظ .. وإلى الوراثة، ولكن أناأختلف، لأن مجدي ينبع من نفسي،ولا يوجد سوى بيتهوفن واحد ” . وكانت سيمفونيته الخامسة هي أول إفصاح عن عبقريته الناضجة. كانعام 1808 هو الحد الفاصل الذي أنهى فيهمهنته كعازف تاريخي نادر للبيانو فقد حال صممه،الذي كانقد وصل إلى مرحلة متأخرة، دون استمراره في العزف، رغم أنه كان قد قدم سراً طلبا لإضافة وتر لأوتار البيانو ذات الطبقة الموسيقية الواحدة حتى تزدادالقوة،فيساعده ذلك على سماع نفسه وهو يعزف. ولكنه واصل عملهكقائد للأوركسترا لتقديم العروض الأولى لأعماله العظيمة التي توجهابالسيمفونية التاسعة التي ضم اليها قصيدة الشاعر الألماني العظيم شيلر التي سماها في البداية “نشيد للحرية” ثم غير الاسم الى “نشيد للفرح”. قرأ بيتهوفن هذا النشيد واعجب به و حمله في فكره ثلاثين سنة تقريبا قبل أن يدخله في سيمفونيته التاسعة و قبل أن يُخلق هذا الجدل الجميل بين الموسيقى و الشعر في وحدة متكاملة تُعتبر من أجمل ما كُتب في مجال الموسيقى و الفن الأوروبي. لم يأخذ بيتهوفن نص شيلر الشعري كما هو إنما قام بتغييره فأضاف إلى مقدمته نصا صغيرا جعل النص الأساسي قادما من إمتداد فوضوي سابق (يمكن ملاحظته موسيقيا في مقدمة الجملة الرابعة من السيمفونية التاسعة) من أجل أن يُدخله عبر كلمات شيلر و موسيقاه إلى عالم جديد، إلى عالم البحث البشري عن الحرية (الذي أراد شيلر بهذه القصيدة وصفها) و كذلك قام بيتهوفن بتغيير ترتيب الرباعيات و حذف بعضها و ذلك حسب الترتيب الذي إرتآه صالحا. في العام 1972 إختار البرلمان الأوروبي الجملة الرابعة من هذه المقطوعة الخالدة لإعتمادها نشيدا وطنيا لأوروبا الموحدة. وقد قال عنها “سنتيان”:”إن الله قد خلق العالم حتى يكتب بيتهوفنسمفونيته التاسعة .. إنها وصية الحب والسلام.” وعندما رقد بيتهوفن على فراش الموت قال كلمته الأخيرة: “هللوا أيها الأصدقاء … انتهت المهزلة” وفقد الوعي عندما دوى الرعد ولمع البرق فيعاصفة عارمةفرفع رأسه وفتح عينيه ليغلقهما الى الأبد بعد ذلك في 26 مارس 1827.