حينما كنت في حوالي الخامسة عشرة من عمري في الصف الأول الإعدادي وجدت ابن ولد خالتي الاستاذ احمد البردولي وهو يحمل معه كتابا/مجلدا ضخما مكتوبا عليه “البؤساء” فأثارني شكله فسألته إن كان يريد بيعه
فرد بالإيجاب وطلب دينارا واحدا ثمنا له فاشتريته منه. وقال لي ان الرواية لغتها صعبة ولم يتمكن من قراءتها، مما خلق في نفسي التحدي وعزمت على قراءة الرواية والانتهاء منها بأية طريقة. قبل فترة بسيطة كنت أقوم بترتيب مكتبتي فوجدت الكتاب وفي وسطه قصاصة ورق مسجل عليها الكلمات الصعبة التي لم أتمكن من فهمها في ذلك الزمن البعيد فشممت رائحة التاريخ والذكريات أيام الصفاء الأولى. أذكر أنني اتممت الرواية حينها وشاهدت الفيلم المصري «البؤساء» مرات عديدة بعد ذلك والذي مثّل فيها الفنان الكبير عباس فارس الذي لعب دور البطل «جان فالجان». هذه الرواية أثرت في حياتي كثيرا فهي من الروايات العالمية لفيكتور هيجو، شاعر فرنسا العظيم وأحد كتابها المبدعين الذي كان والده ضابطاً في جيش نابليون بونابرت. فشل هيجو في دراسته بكلية الهندسة لولعه بالأدب الذي شغله عن الدراسة الأكاديمية. كان فيكتور هيجو يمقت الظلم مما جعله ينتقد سياسة الحكومة الفرنسية في ذلك الوقت وعبر عن رفضه للإعدام حينما كتب روايته الرائعة (أحدب نوتر دام). وبسبب آرائه الجريئة التي كانت ضد الحكومة نفي خارج فرنسا مدة اثني عشر عاماً حيث كتب في المنفى روايته الشهيرة (البؤساء) والتي تقع في خمسة مجلدات عالج فيها القوانين والأعراف الظالمة التي تدفع الكثيرين إلى ارتكاب الجريمة. مثّل هوجو الرومانسية الفرنسية بنظرته المفتوحة على المتغيرات الاجتماعية مثل نشوء البروليتاريا الجديدة في المدن وظهور قراء من طبقة وسطى والثورة الصناعية والحاجة إلى إصلاحات اجتماعية، فدفعته هذه التغيرات إلى التحول من نائب محافظ بالبرلمان الفرنسي مؤيد للملكية إلى مفكر اشتراكي ونموذج للسياسي الاشتراكي الذي سيجيئ في القرن العشرين، بل أصبح رمزا للتمرد على الأوضاع القائمة. ولد فيكتور ماري هيجو في 26 فبراير 1802. وعندما ولد هيجو كانت العلاقة بين والديه غير مستقرة وانفصل والداه عندما بلغ فيكتور السادسة عشرة من عمره. وكان فيكتور يحب باريس حباً جما حيث أطلق عليها «المكان الذي ولدت فيه روحي». بدأ بكتابة الشعر والمسرحيات في 1816 ونشر أول ديوان له تحت عنوان «أناشيد وقصائد متنوعة» الذي نال مكافأة من الملك لويس الثامن عشر، وفي نفس السنة تزوج من صديقة طفولته أديل فوشيه. تم نشر أكثر من خمسين رواية ومسرحيات لفيكتور هوجو خلال حياته، من أهم أعماله: أحدب نوتردام، البؤساء، رجل نبيل، عمال البحر، وآخر يوم في حياة رجل محكوم عليه بالإعدام. والمثير في الأمر أن فيكتور هيجو قد كتب خلال ثلاث وثمانين سنة من عمره 153 ألفاً و837 بيتاً من الشعر، أي بمعدل ستة ابيات في اليوم. لقد شبّه حياته بجبال الهيمالايا وبالمحيط. كان السؤال الذي راود معاصريه هو «ألم يفرط فيكتور بعض الشيء في الكتابة؟» وقد افاد احد الشهود بعد ثلاث سنوات من وفاته انه كان يكتب حتى مائتي بيت من الشعر في اليوم، وانه كان يحقق دخله من انتاجه اليومي من القصائد. والكل يعلم ان هذا الإفراط في الطاقة الابداعية لم يمنع هيجو الاب من ان يهتم بكل انواع النساء: ممثلات وخادمات غوان وفتيات غانيات وعاديات. حتى في هذا المجال، كان قادراً على الجمع بين الكم والكيف، وإلى تحويل هوى جسدي عابر إلى قصة حب تعمر خمسين عاماً، كما تشهد بذلك الطبعة الجديدة المزيدة من مراسلاته المتبادلة مع جولييت درويه فهو كتاب لا يمكن تصنيفه بين الكتب الناعمة. وكان هيجو يتمتع بمواهب كثيرة حيث كان الصحفي ورجل السياسة والمنفي المحترف ورب الاسرة والجد المثالي وبعض الصفات الاخرى. وكان زملاؤه يشعرون بالغيظ منه، من ستندال إلى ليون بلوا وحتى معجبوه المتحمسون انتهوا إلى السخرية من تصرفاته التي تشبه تصرفات مغنية مشهورة ومن وضعياته وتسطيحاته الانسانية ومن ولعه المضحك بالطاولات الدوارة، وباختصار: من جنون العظمة الذي لخصه جان كوكتو بالقول: «ان فيكتور هيجو مجنون يحسب نفسه فيكتور هيجو». واكثر المتضايقين من هيجو كان بودلير الذي كان يكن له احتراما حقيقياً في البداية، قبل ان يبالغ، كما يقول في «حماقة» الرجل العظيم: «هكذا يمكن للمرء ان يكون عقلاً نيراً وفظاً في آن واحد، كما يمكن للمرء ان يكون عبقرية خاصة وغبيا في آن معاً ولقد اثبت لنا فيكتور هيجو ذلك تماما». لاريب ان هناك جانبا من الغيرة في هذه التهجمات، والمهم لدينا نحن القراء والمتذوقون هو الروايات العظيمة التي تركها لنا، فنحن نعلم أن معظم العباقرة والشعراء والفنانين معروفون بتصرفاتهم الغريبة وليسوا لطيفين مثل البشر العاديين. في مايو 1885 أصيب هيجو بالتهاب رئوي، ولما زادت وطأة المرض وشعر بدنو الأجل ودّع أصدقاءه قائلاً آخر بيت من الشعر: (ها هنا يقتتل الليل والنهار) ثم طلب حفيديه وضمّهما إلى صدره يقبّلهما وهو يبكي، وقال: (اقتربا مني يا ولديّ، كونا سعيدين وأقيما على حبي) ولما كان في سكرات الموت، قال له صديقه بول موريس: أنت لن تموت يا سيد فيكتور. قال هيجو: (كلا… ها هو الموت فمرحبا به… الوداع). وأسلم فيكتور هيجو الروح في يوم الجمعة 22 مايو 1885 وتوقف بموته القلم السيّال الذي بهر العقول والقلوب والألباب. ويرقد جثمانه تحت قوس النصر في مدافن العظماء إكراماً للرجل الذي كان قلب فرنسا وروحها.