أكتب وصيتي وأنا بكامل قواي العقلية وقد عمرت طويلا حتى صرت أخشى ألا أموت مع يقيني بأن لكل أجل كتاب وأن لا يشاع خبر وفاتي في وسائل الإعلام، مقروءة او مسموعة، وأن لا يتم تنظيم حفل تأبين لي بعد رحيلي. كانت حياتي سعيدة جدا، ولدت منذورا للشقاء ولكنني انتصرت عليه.
عشت بسيطا وراغبا في أن أموت، ان ما فعلته في حياتي هو معروف وهو أداء واجبي تجاه وطني وشعبي مكرسا كلماتي لأجل هدف واحد هو نصرة الفقراء والبؤساء والمعذبين في الأرض. واعتذر لأقربائي وأصدقائي وأدعوا أن يحمل نعشي أربعة أشخاص مأجورين فقط من دائرة دفن الموتى ليهال عليّ التراب في أي قبر متاح منهيا بذلك هذا الحفل، وأطلب منكم جميعا عدم البكاء والحزن و ارتداء اللون الأسود. أشدد لا حفل تأبين، فالذي سيقال بعد موتي، سمعته في حياتي.” بهذه الكلمات كتب الكاتب حنا مينا وصيته. ولد الكاتب “حنا مينه” “، الذي يعتبر من أشهر الروائيين العرب، في مدينة اللاذقية عام 1924 حيث عاش طفولته في حي ” المستنقع ” احدى قري لواء اسكندرون قبل أن يعود مع عائلته الى اللاذقية. احترف العمل في البداية في الميناء كحمّال ثم احترف البحر كبحّار على المراكب عمل في عدة مهن من أجير مصلّح دراجات، إلى مربّي أطفال في بيت سيد غني، إلى عامل في صيدلية، إلى حلاّق، إلى صحفي، إلى كاتب مسلسلات إذاعية باللغة العامية، إلى موظف في الحكومة حتى وصل الى الرواية وهنا كانت المحطة قبل الأخيرة. من أشهر رواياته: “المصابيح الزرق”، التي خط فيها الأسس الواقعية للرواية السورية وقد أثارت جدلاً عن عدائه لنظرية الفن للفن وتأكيد التزامه السياسي. له روايات عديدة منها: “الشراع والعاصفة، الياطر، الشمس في يوم غائم، بقايا صور، حكاية بحار، المرصد، الربيع والخريف، الثلج يأتي من النافذة والمستنقع وغيرها”. كما أصدر عدة مؤلفات منها “هواجس في التجربة الروائية، أدب الحرب، ناظم حكمت ثائراً”. حنا مينه من رواد البحر في الأدب العربي حيث أعطى كثيراً من الاهتمام لقصة الارادة البشرية في انتصارها على الطبيعة القاسية بالإضافة إلى المغامرة لكن بدرجة إنسانية عذبة تغري بالسفر لكنها لا يشغلها الانتقام أو الذل أو الغرق في مستنقعات التفاهة. حنا مينه روائي مغامر بعين المحب البصير يتطلع في خبرة تحمل أسى العمر نحو سماوات مشرقة من تاريخ الأدب وروح الرواية التي تحمل الأمل في النفس رغم مفاجآت الواقع! ويعد حنا مينه، أحد أجمل الروائيين العرب وأكثرهم التزاما بصف الفقراء، لم يبارح وطنه أبدا إلا حين ذهب للصين في منصف الستينيات من القرن الماضي ليكتب عنها ثلاثته الضخمة البديعة ( حديث في بيتاخو/ عروس الموجة السوداء / المغامرة السوداء)، وهو عمل أدبي كبير لم يسبقه إليه أحد من الكتاب العرب، كأنها الامتداد لما كتبته الروائية الامريكية ” بيرل باك ” حول الصين في روايتها المعروفة ” الأرض الطيبة”. انتقل إلى بيروت عام 1946 بحثاً عن عمل ثم إلى دمشق عام 1947 حيث استقر فيها، وعمل في جريدة الإنشاء حتى أصبح رئيساً لتحريرها. دخل المعترك السياسي الحزبي مبكرا وهو فتى في الثانية عشرة من عمره وناضل ضد الانتداب الفرنسي، ثم هجر الانتماء الحزبي في منتصف الستينيات، وكرّس حياته للأدب، وللرواية بشكل خاص. ساهم مع لفيف من الكتاب اليساريين في سورية عام (1951) في تأسيس رابطة الكتاب السوريين، والتي كان من أعضائها : سعد حورانية ـ فاتح المدرس ـ شوقي بغدادي ـ صلاح دهني ـ مواهب كيالي ـ حسيب كيالي ـ مصطفي الحلاج وآخرون. وقد نظمت الرابطة عام (1954) المؤتمر الأول للكتاب العرب بمشاركة عدد من الكتاب الوطنين والديمقراطيين في سورية والبلاد العربية. كما ساهم في تأسيس اتحاد الكتاب العرب. يقول عن نفسه “أنا كاتب الكفاح والفرح الإنسانية فالكفاح له فرحه، له سعادته، له لذّته القصوى، عندما تعرف أنك تمنح حياتك فداء لحيوات الآخرين، هؤلاء الذين قد لا تعرف بعضهم وجهاً لوجه، لكنك تؤمن في أعماقك، أن إنقاذهم من براثن الخوف والمرض والجوع والذل، جدير بأن يضحى في سبيله. إن وعي الوجود عندي، ترافق مع تحويل التجربة إلى وعي، وكانت التجربة الأولى في حي (المستنقع) الذي نشأت فيه في اسكندرونة، مثل التجربة الأخيرة، حين أرحل عن هذه الدنيا ومثل تجربة الكفاح ما بينهما، منذوره كلها لمنح الرؤية للناس، لمساعدتهم على الخلاص من براثن الجهل، والسير بهم ومعهم نحو المعرفة، هذه هي الخطوة الأولى في (المسيرة الكبرى) نحو غد أفضل”. يقول عن مهنته الأخيرة “مهنة الكاتب ليست سواراً من ذهب، بل هي أقصر طريق إلى التعاسة الكاملة. لا تفهموني خطأ، الحياة أعطتني، وبسخاء”. يقول عن البحر الذي عشقه:” إن البحر كان دائماً مصدر إلهامي، حتى إن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب، وأسأل: هل قصدت ذلك متعمّدا؟ في الجواب أقول: في البدء لم أقصد شيئاً، لحمي سمك البحر، دمي ماؤه المالح، صراعي مع أسماك القرش كان صراع حياة، أما العواصف فقد نُقشت وشماً على جلدي، إذا نادوا: يا بحر! أجبت أنا! البحر أنا، فيه وُلدت، وفيه أرغب أن أموت.. تعرفون معنى أن يكون المرء بحّاراً؟ إنه يتعمّد بماء اللجة لا بماء نهر الأردن، على طريقة يوحنا! أسألكم: أليس عجيباً، ونحن على شواطئ البحار، ألا نعرف البحر؟ ألا نكتب عنه؟ ألا نغامر والمغامرة احتجاج؟ أن يخلو أدبنا العربي، جديده و قديمة، من صور هذا العالم الذي هو العالم، وما عداه، اليابسة، جزء منه؟! البحّار لا يصطاد من المقلاة! وكذلك لا يقعد على الشاطئ، بانتظار سمكة السردين التافهة .إنه أكبر، أكبر بكثير، وأنا هنا أتحدث عن البحّار لا عن فتى الميناء! الأدباء العرب، أكثرهم لم يكتبوا عن البحر لأنهم خافوا معاينة الموت في جبهة الموج الصاخب. لا أدّعي الفروسية، المغامرة نعم! أجدادي بحّارة، هذه مهنتهم، الابن يتعلم حرفة أهله، احترفت العمل في الميناء كحمّال، واحترفت البحر كبحّار على المراكب. هذه المسيرة الطويلة كانت مشياً، وبأقدام حافية، في حقول من مسامير، دمي سال في مواقع خطواتي: أنظر الآن إلى الماضي، نظرة تأمل حيادية، فأرتعش. كيف، كيف؟! أين، أين؟! هناك البحر وأنا على اليابسة؟! أمنيتي الدائمة أن تنتقل دمشق إلى البحر، أو ينتقل البحر إلى دمشق، أليس هذا حلماً جميلاً؟! السبب أنني مربوط بسلك خفي إلى الغوطة، ومشدود بقلادة ياسمين إلى ليالي الشام الصيفية الفاتنة”. ويظل حنا مينه يحلم ـأن ينتقل البحر الى دمشق………….!