«وعرفتُ أنني قتلتُ..
وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن والكنائس
فتحوا البراميل والخزائن
سرقوا ثلاث جثثٍ
ونزعوا أسنانها الذهبية ولكنهم لم يجدوني قط»
بهذه الكلمات تنبأ الشاعر الاسباني الاندلسي فيدريكو غارسيا لوركا بأنه سيموت مقتولاً، وبأن أحداً لن يجد جثته رغم البحث عنها، لكنه لم يكن يدري أن البحث يحتاج الى قرار قضائي بعد أكثر من 70 عاماً من مقتله. كانت ولادة فدريكو غارسيا لوركا في الخامس من يونيو 1898 في غرناطة، كان يعاني من مشكلة في النطق في طفولته. انتقل لوركا مع والديه إلى مدينة غرناطة التي طالما عشقها لكن ظل هاجس خفي يتسرب الى نفسه، وطائر الأحلام يرفرف بأجنحته محاولا تكسير أسلاك ذاك القفص كي ينطلق بعيدا حيث الحب والدفء والاخضرار، وحيث تتجمع كل الطيور المهاجرة حول ينابيع الضوء والمطر الأجمل.. ظل هكذا زمنا إلى أن طار إلى مدريد واستقر بها، وفي سمائها لمع نجمه الأدبي وتألق. وكان أهم محطة في حياته إقامته في بيت الطلبة في مدريد وصلاته المتميزة مع الأدباء والشعراء أهمهم الشاعر الكبير خوان رامون خيمينيث الذي نال جائزة نوبل للآداب عام 1956 والرسام الشهير سلفادور دالي وشاعر الثورة الكسندر البرتي. في عام 1921 اقتنع بنشر أول ديوان شعري له بعنوان (كتاب القصائد) بتشجيع من أصدقائه. فقد كان يفضل أن يلقي أشعاره ويسمعها للآخرين على أن تطبع. في عام 1927 أصدر ديوانه الثاني الذي أسماه (الأغاني) وشهد عام 1928 ظهور أهم ديوان له وأكثرها انتشاراً وشهرة وهو ديوان (حكايا شعبية) الذي سرعان ما انتشر في اسبانيا وكل الدول الناطقة باللغة الاسبانية ليبدأ لوركا مرحلة الانتشار والشهرة.
لقد ربط لوركا في أشعاره بين الحضارة الاسبانية وجذوره الأندلسية العربية فتوليدو هي بالنسبة إليه طليطلة العربية وغرانادا هي غرناطة العربية. ويتضح تأثره بأسلوب الموشحات الأندلسية في ديوانه (ديوان الغجر) كذلك في (ديوان التماريت) والتماريت تعني التمر، كذلك نجد مفردات في بعض القصائد تبدأ بكلمة قصيدة (casida) وتتكرر فيها كلمة غزل (gacel). لقد كان يتغنى بالحضارة العربية الإسلامية، ويفتخر بالأندلس وأنه أندلسي، فقد صرح وبلا مواربة حين سأله الرسام باغاريا: (أتعتقد يا فدريكو أن قيام الملوك العرب بتسليم مفاتيح غرناطة إلى المنتصرين أمرا مفرحاً)؟: غزو غرناطة العربيّة على يد الكاثوليك الإسبان في العام 1492 هي لحظة شؤم، بالرغم من أنهم يقولون عكس ذلك في المدارس. لقد فقدنا حضارة جديرة بالإعجاب، شعرًا وعلم فلك وعمارة، وحضارة لا مثيل لها في العالم، لنسلمها إلى مواطنين بؤساء وجبناء وضيّقي الأفق يمثلون أسوأ بورجوازية في إسبانيا).
كما يورد الناقد (دومينيكيز) حين التقى به: (إن لوركا كان يؤمن بالعرب، بل إنه أقرب إلى أن يكون عربياً من أن يكون اسبانياً). فنرى باستمرار في أشعاره المفردات العربية الكثيرة لتكون قاموساً خاصاً به مثل القصر، ياسمين، زيتون، طلح، ليمون، خرشوف، عنبر كذلك عناوين بعض قصائده: ديوان، قصيدة غزل.. ربما لهذا وربما لشيء آخر كان الدافع لقتله وخاصة أنه عرف عنه مناهضته للفاشيين ومناصرته للجمهورية، فوقف إلى جانب الجمهوريين على الرغم من نفي كونه سياسياً حين قال: (أنا أبداً لن أكون سياسياً، أنا ثوري وليس هناك من شاعر حقيقي إلا وكان ثورياً) مع ذلك كانت قصائده بمثابة شرارات تلهب حماس الشعب للوقوف بوجه الديكتاتور (فرانكو) وأنصاره. وهناك جدل حول اغتياله، فهناك من يقول أنه قُتل لأن فرانكو كان يكره المثليين ولوركا كان مثليا، لكن الجدل المحتدم حول موته مازال قائماً لكن يبدو إن شعر لوركا كان سبباً رئيسياً لقتله إلا أنه كان أيضا السبب الرئيسي لخلوده، لقد تجاوز لوركا حدود غرناطة واسبانيا كلها ليصل إلى كل بقعة في العالم كذلك تجاوز حدود الزمان والمكان ليخلد في ذاكرة الأدباء والمفكرين والثوريين في العالم فقد صارت كلماته نبراسا يضيء طرقات كبار الأدباء والشعراء والمثقفين بالعالم يتداولونها ويستمدون منها أفكارا وعبارات ودراسات لن تنتهي. لقد وقف لوركا بكل شجاعة أمام جلاديه ليستقبل رصاصاتهم الجبانة وهو يلقي قصيدة حب غير آبهٍ بالموت. وقد رثاه نيرودا بقصيدة غاضبة أشد الغضب، نقم فيها على كل شيء. ترك لوركا وراءه ثورة وثروة لا تنضب رغم الفترة القصيرة التي عاشها.. ترك كلمات لا تندثر وكوّن مدرسة تأثر بها كل من قرأ كلماته.