لماذا يزداد الأثرياء ثراء والفقراء فقرا؟

يحاول الكتاب تقديم تفسير جديد للسلوك الإنساني من خلال النظر إلى البشر من “زاوية أخرى”، إن هذا هو ما يجعل الكتاب يبدو شائقا مثيرا ومهما في أوله، ولكن ما يلبث سقف الطموحات أن ينخفض كلما توالت صفحات الكتاب حتى يتمخض الكتاب عن فكرة تبدو للقارئ الشرقي سطحية وبسيطة وربما تافهة.

ربما لو كنتُ غربيًّا لاعتبرتُ هذا الكتاب عظيما، وفي ظني أن هذه هي قيمة الكتاب الحقيقية: خروجه من الغرب وانطلاقه من أرضية فكرية غربية ليهدم فكرة غربية شائعة ثم ليبني غيرها، ولكنه يبنيها على نفس الأرضية الفكرية الغربية.. أما في أرضنا وعالمنا الشرقي (العربي والهندي والصيني وسائر الشرق) فلا يبدو الكتاب ذا قيمة كبيرة.

***

فكرة الكتاب متمثلة في أن الناس إذا نُظِر إليهم مثلما ينظر علماء الفيزياء إلى الذرات فإن كثيرا من السلوك البشري سيتم تفسيره بسهولة، مما يجعلنا على أعتاب علم جديد هو “الفيزياء الاجتماعية”، وهو علم سيُحْدث في الاجتماع طفرة تشبه ما صنعته ثورة “الكم” في الفيزياء.

لقد لوحظ أن الناس يتحركون جماعيا في “أنماط”، حتى مع اختلافهم في الأهواء والرغبات والميول، إلا أن ثمة ما يجعلهم يتحركون في لحظة معينة تجاه موقف معين بسلوك واحد، هذه الحركة نفسها ما تلبث أن تؤثر على آخرين فتجذبهم إلى فعل نفس السلوك مما يزيد من قوة وعمق هذا السلوك، بهذا يمكن تفسير انقلاب كثيرين في لحظات معينة إلى طائفيين وعنصريين ودمويين، كما يمكن تفسير تطور مدينة بعينها من التخلف إلى التقدم بدون عامل استثنائي ظاهري، كما يمكن تفسير نجاح الشركات والمناطق الاقتصادية وغيرها.

لهذا ينبغي أن نبتعد عن محاولة دراسة السلوك الفردي لكل شخص على حدة في مثل هذه الظواهر، والاتجاه إلى دراسة “الأنماط”، لأن الخلافات بين الأفراد واسعة ومليئة بالتفاصيل وكثيرة التعقيد بينما دراسة الأنماط ستوفر كثيرا من التفاصيل غير المهمة ولا الضرورية لترصد كيف تتفاعل هذه المكونات البشرية الشديدة الاختلاف والمليئة بالتفاصيل حين تلتقي في جماعات، وحين تواجه –كجماعة- نفس المواقف.

إن هذا شبيه جدا بما تم في عالم الفيزياء، حيث إن نفس الذرات يمكنها أن تتجمع في أشكال متعددة، ويعتمد تكون المادة المتكونة من هذه الذرات على طريقة تفاعلها مع بعضها، فلهذا تختلف المواد النهائية وخصائصها باختلاف “سلوك” أو “نمط” الذرات في تفاعلها.

هذه هي الفكرة الرئيسية في الكتاب، والتي خصص لها المؤلف الفصل الأول.. ثم حاول في الفصول التالية أن يقدم ملامح الأنماط البشرية.

في الفصل الثاني وضع المؤلف عددا من حالات التحول الاجتماعي والاقتصادي التي تبدو غريبة، وتبدو أسباب نجاحها غير مفهومة، وضعها ليثبت فكرته القائلة بأنه لا تفسير لمثل هذه التحولات إلا بالنظر إلى “الأنماط”، وباعتماد نظرية “الذرة الاجتماعية” التي هي المدخل لعلم “الفيزياء الاجتماعية” في تحليل السلوك الإنساني.

حاول المؤلف في هذا الفصل أن يثبت أن الإنسان يخضع لقوانين علمية صارمة مثل التي تخضع لها الذرات في الفيزياء، وأن يرد على الاعتراضات التي قد يواجه بها القارئ مثل: اختلاف الإنسان عن المادة، أو مثل وقائع تاريخية تثبت أن التاريخ –باعتباره حقل التجربة الإنسانية- لا يُتَنَبَّأ به كما يمكن التنبؤ بالتجربة في المعمل، وهكذا [والحقيقة أن هذا الجزء هو الأكثر تخبطا واضطرابا في كتاب المؤلف، ولكن سنمضي في العرض الآن ونؤجل النقاش والنقد بعد قليل]

وفي الفصل الثالث اهتم المؤلف بهدم الفكرة القائلة بأن الإنسان كائن عقلاني، أي يتصرف في كل أموره بعقلانية واضحة ويستطيع أن يحدد –بقرار عقلي بحت- أين تكمن المصلحة، وهي الفكرة المركزية في الفكر الغربي، وبنيت عليها كثير من الفلسفات والنظريات ولا سيما النظريات الاقتصادية، لقد استطاع المؤلف من خلال تحليل كثير من الحالات أن يهدم هذه الفكرة، مع التركيز على الحالات الاقتصادية باعتبار الاقتصاد هو النشاط الأبرز للحالة العقلانية.. يخرج القارئ من هذا الفصل وقد اقتنع أن الإنسان ليس عقلا فحسب.

وفي الفصل الرابع عرض المؤلف لفكرة “الذرة المُتَكَيِّفة”، وفيها يقول بأن الإنسان لديه القدرة على التكيُّف واستيعاب المستجدات، وناقش كيف أن هذا التكيف كفيل وحده بتدمير التنبؤات التي تُبنى على “العقلانية” وحدها، ثم كيف يكون هذا التكيف سبيلا لتفسير العديد من حالات التحول.

وفي الفصل الخامس عرض لفكرة “الذرة المُقَلِّدة” على أساس أن الإنسان يحاكي غيره في كثير من الأفعال وليس متخذا للقرار بعقلانية كما يتوقع المفكرون وعلماء الاقتصاد، وأن هذا التقليد يفسر كثيرا من السلوك الإنساني، فانتشار الشائعات –مثلا- هو أبسط تعبير عن هذه الخاصية الإنسانية، إذ يتناقل الناس بالتقليد أمورا لم يروها ولم تقم عليها دلائل، كذلك فإن الغريزة المقلدة هي التي تدفع لانتشار الاحتجاجات واتساعها حتى لو لم يكن المفجر لها قويا، فالإنسان بطبيعته يميل إلى الانسجام مع من حوله وقليل هم من يبذلون مجهودا لمخالفة التيار والتعرف على الحقائق بأنفسهم.

وفي الفصل السادس عرض المؤلف لفكرة “الذرة التعاونية” مثبتا أن الإنسان يميل إلى التعاون مع غيره من بني البشر حتى لو لم يكن يعرفهم، وحتى لو لم يكن هذا يعود عليه بالنفع، هذه المخالفة الصريحة للعقلانية المادية التبادلية التي تقوم عليها النظريات الاجتماعية الغربية وتظهر بوضوح في النظريات الاقتصادية ربما –كما يقول المؤلف- تكون من ميراث أجدادنا القدماء، لقد تأصلت فينا هذه الصفة حتى لو لم يعد لها مردود مادي.

وفي الفصل السابع يناقش المؤلف كيف أن الإنسان بطبعه ميال إلى التحيز والتميز والالتصاق بمجموعته، وبالتالي فإن لديه بذورا عدائية ضد “الآخر”، ولربما –كما يقول- كان هذا ميراثا من أجدادنا القدماء الذين اعتادوا على العيش في قبائل وجماعات متفرقة تعرف نفسها بالتميز عن غيرها ومعاداة هذا الغير، وبهذا يفسر المؤلف اندلاع النزاعات العرقية فجأة بعدما بدا أن الناس قد اعتادوا العيش في سلام، أو كيف ارتفعت شعبية بوش فجأة من الحضيض بعد هجمات سبتمبر، وبالتالي فإن القائد أو الزعيم السياسي ليس بالضرورة ممتلكا لمواهب فائقة ولكن هو ذلك الإنسان الذي لديه القدرة على اكتشاف وتوجيه طاقة العداء في قومه، فالسياسة هي “التنظيم المتوالي للأحقاد” كما يقول المؤرخ الأمريكي هنري بروكس آدامز.

وفي الفصل الثامن يأخذ موضوع الثروة كتطبيق لفكرة الأنماط، وكمثال ناجح لاستعمال علم “الفيزياء الاجتماعية” إذ سيَثْبُتُ أن ثمة قانونا كونيا ينظم توزيع السلطة بين الناس، هذا القانون الذي تفرزه الحضارات جميعا والشعوب جميعا هو الذي يجعل الأغنياء يزدادون غنىً والفقراء يزدادون فقرًا.

وفي الفصل التاسع أخذ موضوع المنافسة ونمط العمل في الشركات كتطبيق آخر لفكرة الأنماط، وخلص إلى أن حركة التاريخ تتكرر لأن القوانين تعمل وتعمل و تعمل ثم تعمل ثم تعمل حتى تعيد ترسخ أنماطا معينة إلى حد معين ثم يبلغ الأمر مداه النهائي فيتم الانقلاب لتعود الأمور سيرتها الأولى.

***

كان ما سبق هو العرض، وما يأتي هو المناقشة والنقد:

بدياه ينبغي التنبيه على أن الكتاب يمثل مراجعة جديدة للأفكار الغربية بخصوص الإنسان، وهو على هذا المستوى مفيد، إلا أن مشكلته الرئيسة أنه ينطلق من نفس الأرضية الغربية التي تجعل الإنسان جزءا من الطبيعة المادية، وعلى هذا فهو محكوم بقوانين مادية صارمة نحتاج إلى اكتشافها لكي نتحكم في الإنسان ونستثمره كما فعلنا مع الطبيعة.. لا وجود لاحتمال أن يكون الإنسان متفوقا على الطبيعة ومتجاوزا لها، إذ أن مجرد ورود هذا الاحتمال يدفع إلى الإيمان بالخالق الذي خلق الطبيعة وخلق الإنسان، وجعل هذه على طبيعتها المادية ومنح للإنسان طبيعة أخرى.

والمؤلف غير مستعد لمثل هذه الأفكار فهو مؤمن بالتطور وبالنظرية الداروينية لأصل الإنسان، وعلى رغم أن بحثه هذا قد أثبت له أن ثمة خصائص “إنسانية” لا توجد في المادة كالأخلاق التعاونية، أو التقليد والمحاكاة، إلا أنه عزا هذا سريعا إلى الميراث القديم الذي ترسخ فينا ووصل إلينا عبر أجدادنا الذين كانوا مضطرين للتعاون في ظروف تفرض عليهم أن يكونوا متعاونين وإلا خسروا جميعا. لقد أطال المؤلف في هدم “العقلانية المادية” التي تسيطر على الفكر الغربي، لا سيما الفكر الاقتصادي، حتى لقد قاربنا منتصف الكتاب وهو ما يزال يشبع هذه الفكرة هجوما، وكان حريا به بعد هذه الإطالة أن يفكر في التجاوز الإنساني للمادية الموجودة في قوانين الطبيعة، لا سيما بعد أن أتحفنا كثيرا بخصائص إنسانية بحتة.. إلا أنه لم يفعل، وذلك لفساد الأساس أصلا.

لهذا قد يكون الكتاب عظيما في بيئته الغربية، ربما يكون مفاجئا للغربيين اكتشاف هذه الغرائز إلا أنه على الأقل غير مفاجئ لنا نحن، فنحن الشرقيون (بمعنى الحضارات الشرقية) ما زالت تهيمن علينا عقائدنا التي تصرح بأننا شيء والطبيعة شيء آخر، وأننا متميزون بهذه الأخلاق الترا حمية، والمؤمنون بالأديان السماوية يعلمون أن هذه الغرائز ليست لأننا ورثناها من أجدادنا القدماء، بل لأن فينا روحا من الله تجعلنا أسمى وأوسع من أن نكون ذرات مادية. ولقد أدى هذا إلى أن الشرق ما زال متحفا حافلا بالعديد من الأجناس والألوان والحضارات والعادات فيما تم تنميط المجتمعات الغربية تماما، ويمكن العودة في هذه النقطة لكتابات الفيلسوف الراحل د. عبد الوهاب المسيري، ومن ثم فلا أظن أن الكتاب مفيد للشرقيين إلا على مستوى معرفة الأفكار السائدة ومسار الفكر في الغرب.

كان أكثر الأجزاء تخبطا واضطرابا في الكتاب محاولته إثبات أن هذا العلم يمكن به السيطرة على السلوك الإنساني والتنبؤ به كما أمكن هذا بالنسبة للفيزياء في المعمل، لقد بدا مضطربا في الرد على الفوارق بين الإنسان والمادة وبين التنبؤ بالتاريخ والتنبؤ بالتجربة، ومارس نقضا لأقوال غيره بأكثر مما مارس إثباتا لأقواله، وبدا منشغلا بإسقاط نظرياتهم على رغم أن سقوطها لا يعني أن نظريته هي البديل الصالح.

وملحوظة أخرى تنتشر في الكتاب ولا تفلتها العين، تلك هي الغموض الذي يحيط بالتجارب التي تمت على الكمبيوتر، فالمؤلف يحكي كثيرا عن أمثلة قام بها العلماء في محاولة استكشاف السلوك البشري، فيذكر مثلا كيف تمت التجربة وكيف كانت نتائجها، إلا أن كثيرا من هذه التجارب لم يذكرها واكتفى بالقول بأنه بوضع هذه البيانات على الكمبيوتر أخرج لنا الكمبيوتر النتيجة التي تقول كذا، ولسنا نعلم كيف تمت “برمجة” هذا الكمبيوتر ليكتشف سلوكا إنسانيا؟!! ولهذا فإني من هذه التجارب والنتائج على شك.

***

إنها محاولة غربية أخرى للسيطرة على الإنسان وعلى التاريخ وتكريس التفوق الغربي من خلال التنبؤ بالمسارات الممكنة وتوجيهها أو الاستفادة منها، وهي في تقديري محاولة فاشلة أخرى، لأنها طلب ما لا يُدرك.

بقلم: محمد إلهامي

المؤلف: مارك بوكانان