تداخل اليسار في الشرق مع ولادات الرأسماليات الحكومية الشرقية فيها. كانت هذه لحظة لقاء معقدة وتركيبية، وذات إشكاليات متعددة، تضافرَ فيها اليسارُ الغربي مع الشمولية الشرقية، والرغبة في القفزة النهضوية مع الاستبداد، وتسريعُ الحداثةِ مع هياكل اقتصادية متخلفة جامدة، وتم جلب أحدث الأفكار التقدمية لوعي شعوب تعيش في قرون سابقة!
أسرعت قوى سياسية في تنميط موديل سياسي يساري نهضوي رأت فيه الشفرة الموجزة والمتكاملة وجعلت من الدكتاتورية طريقة سياسية لحل كل هذه الإشكاليات.
تداخل الموديل التاريخي العابر مع إطلاقيات مقدسة وأنه يؤدي إلى زوال الرأسمالية في العالم ككل، وتوجه لإزالة الأديان والقوميات (الشوفينية) وإحلال لغة قومية لشعوب أخرى.
الطريق الرأسمالي الحكومي الشرقي عامة وصل إلى طريق مسدود، وعادت الرأسمالية السوداء والفوضوية وعاد الدين المحافظ ليتبوأ مكانة مقدسة، وعجزت اللغة القومية عن أن تكون لغة عالمية للشعوب التي عادت إلى لغاتها وتقاليدها العتيقة!
أخذ اليسار الشمولي ينهار وينعزل، ولا يقدم إجابات عن الأسئلة المعقدة والمركبة للشعوب الشرقية، واستمرت أصواتٌ يسارية قليلة ونادرة في مثل هذا الزحام بين يسار شمولي متآكل تاريخياً وقوى رأسمالية بيروقراطية امتلأت بالفساد ونهج العصابات. بين قوى شعبية عاملة يئست أو تجمد وعيها واضطربت أفكارها بين يسار شمولي وعد بالجنة، وبين جنان رأسمالية في الغرب تهفو إليها!
كان نجاح اليسار الشمولي في تصعيد التنمية الهائلة لهذه البلدان وبين إخفاقات الديمقراطية والتطور الاجتماعي المتكامل، بين خلق نهضة كبرى لا أحد قادر على إنكارها، وبين دهس الشعوب ورفض حرياتها وتعبيرها عن ذواتها، تناقضات ضخمة استعصت على الحل التاريخي الملموس في ظرف زمني قصير قياساً لعمر الحضارات!
وكان غياب التطور المتكامل الجامع بين النهضة الصناعية والتحديث والديمقراطية، له ثمن فادح، في قفزة القوى الدكتاتورية الحكومية العسكرية والاستخباراتية إلى سدة الحكم، وفي تدمير الكثير من إنجازات القطاعات العامة، وتصعيد مليونيرات من الأقبية السرية للبيروقراطية، وفي انهيار المؤسسات العامة للثقافة ودعم الدول للمفكرين والمبدعين.
كان السؤال الخطير هو: لماذا عجزتْ هذه التجاربُ العالمية الهائلة عن إنتاجِ يسارٍ يجمعُ بين التنمية والديمقراطية، بين تقدير الأديان ونقد جوانبها المحافظة السلبية، بين قيادة القوى الاشتراكية المفترضة واحترام المؤسسات الديمقراطية التي تكونت في بدء الثورات؟
ولماذا تم مجاملة القوى الحاكمة وعدم نقدها وتسلق قنواتها السياسية؟
كانت هزيمة الاشتراكية الديمقراطية التعددية وسيطرة النموذج (الشيوعي) كارثة في تطور شعوب الشرق، رغم أنه كان في خلال عقود نموذج الحلم المسقبلي.
لا بد من بحث نتائج هذه العملية الآن، بعد سنوات من الصراع بين الموديلات السياسية المختلفة، وخاصة بين اليسار الشمولي واليسار الديمقراطي، ماذا حدث؟ وما هي نتائج الانهيار؟ وهل ظهر يسار ديمقراطي يجمع بين التنمية والديمقراطية؟ بين احترام الأديان والتقاليد وشق الطريق لصعود قوى الكادحين؟
ماذا تقول الأحزاب الشيوعية عن تجاربها؟ وهل ظهرت أحزاب اشتراكية ديمقراطية؟ وما هي أوجه الاختلاف بينها؟ وهل ثمة صيغ متقاربة ومتداخلة؟