يكثر الحديث عند الاتجاه الديمقراطي العقلاني في البحرين عن مسألة اغتراب اليسار البحريني، وهي مسألة او اشكالية لا بد من الوقوف عليها تقول ان اليسار البحريني بات خارج التاريخ، كما كنا نسمع في مقالات المنبر التقدمي مفردة المستقيلين سياسياً او المتقاعدين سياسياً، وفي الحقيقة ليس هناك أحد خارج التاريخ، اليسار في التاريخ، ولكن السؤال هو في اي تاريخ؟ ثمة تاريخ وتاريخ: ثمة تاريخ للحركة الوطنية وتاريخ للجمعيات السياسية هو، بالأحرى تاريخ متخثر، تاريخ راكد ودوراني، حركته حركة اعتماد، اي دوران حول الذات (في اروقة الجمعيات السياسية) ومراوحة في المكان. أصبح اليسار داخل هذا التاريخ المتخثر وجزء من أزمة الواقع، او جزء من واقع مأزوم، تقدمه محتجز وملجوم بفعل عوامل داخل هذه الجمعيات السياسية وخارج هذه الجمعيات وهي عوامل متضافرة، ووصل هذا الاتجاه الديمقراطي العقلاني النقدي الى الشك بل الجزم بأن لدى هؤلاء ميلاً او نزوعاً للخروج من المأزق الذي وضع هذا اليسار نفسه فيه فما بالك بقدرته على حل مشكلة / مشكلات الواقع المأزوم، والشك بل الجزم في ان لدى هؤلاء تصورات واقعية وعملية للخروج من المأزق الذي وجدوا أنفسهم فيه، بل لنقل وضعوا أنفسهم فيه. وإذا كان من البديهي ان اليسار في التاريخ، وليس بوسع احد ان يكون خارج التاريخ، وإذا اتفقنا ان هذا التاريخ راكد (اذا لم يكن ميت) ومتخثر، فإن السؤال ينصرف الي أسباب ركود التاريخ الداخلي لليسار وهو ركود مضى عليه اكثر من عقد مع سقوط المنهج لدى هذا اليسار على الصعيد المعرفي والثقافي والى تشظي جمعيات اليسار على الصعيد السياسي وارتمائه في احضان الاسلام السياسي او النظام السياسي منذ الاستقطاب الحاد لهذا اليسار وسقوطه بكل خفة عبر حركات بهلوانية على الحبال السياسية او الانتهازية منذ ان هيمنت جمعيات الاسلام السياسي على الحراك السياسي مع نهاية التسعينيات، حتى محاولات التوجه النقدي الذي تبلور من داخل هذا اليسار والذي لم تزل عناصره وأسئلته والمسائل التي طرحها والتي التف حولها عدد قليل بينما قابله التيار الجامد عقائدياً بالهرب من مواجهة مشكلات ومسائل الواقع الذاتي والموضوعي الذي طرحها الاتجاه النقدي وهرب ذلك الاتجاه الجامد العقائدي الى تجاوز كل ذلك اي الى المجهول فغدت نقطة ارتكاز الوعي لدي هذا اليسار خارج الزمان والمكان المعاصرين، اي خارج الواقع . فلماذا نستغرب ان يكون هذا اليسار هو تقليدي وجامد ومحافظ، ان تخثر التاريخ لا يعني خلوه من الهزات والأحداث العاصفة والربيع العربي وثوراته المزعومة، ولكنه يعني ان كل مرحلة تعيد انتاج التقليد والتأخر على نحو ما حدث لليسار مع تلك الهزات والانفجارات والثورة المزعومة فالقيم والمفاهيم التقليدية والطائفية يعاد إنتاجها وإلباسها اثواباً (حديثة)، لقد استقال هذا اليسار من الوظيفة التي اناطته بها محاولة النهضة، ووظيفة (التنوير) التي هي في أعمق منطوياتها وظيفة اجتماعية وسياسية فما بالك (بالتقدمية) فتخلى هذا اليسار عن ذاتيته، اي عن حريته واستقلاله عن الجمعيات الاصولية والجهادية وكف عن كونه القوة الروحية والأخلاقية والمعرفية التي تعصف دماغ اليساري .
الاشكالية الثانية في اغتراب اليسار هو انهم أخفقوا في اختبار العمل العلني في انتاج الوعي الاجتماعي او في بلورة الوعي الاجتماعي في المجتمع والسؤال هنا ما طابع الوعي الذي أنتجه اليسار البحريني او الذي أسهموا في إنتاجه او اعادة إنتاجه؟ المؤشر هنا هو المستوى الوسطي للوعي الاجتماعي، وهنا كانت قلة من اليسار الذين تعرفوا على هذا المستوى الوسطي للوعي الاجتماعي (البنية القبلية -الطائفية) وان الاجابة عن هذا السؤال تحيلنا مباشرة على سؤال اغتراب اليسار، وهو سؤال ليس طارئاً ولا جديداً.
فالوعي الاجتماعي لا يزال وعياً تقليدياً (القبلية السياسية -الطائفية السياسية) يعيد انتاج الأسس والمبادئ والمفاهيم التي قام عليها في الماضي وكذلك التي قام عليها في اثناء العمل السري ؟! وهيمنة الماركسية الرائجة الجامدة. مما يوصلنا الي القول ان اليسار البحريني مغترب حقاً عن عالمه وعن نفسه اغتراباً هو صورة مثقفة لاغتراب المواطن عن عالمه وعن ذاته وهو اغتراب اما انه سلفي – جهادي لدى الأكثرية، واغتراب حداثوية لدى اليسار القومي والاشتراكي والليبرالي او بمعنى اخر الذين نسبوا أنفسهم الى هذه الاتجاهات، معظم اليساريين ينتجون ويعيدون انتاج ثقافة تقليدية سلفية امتثالية نصية ويقينية (ستالينية الشكل) لا صلة لها بالعصر ولا صلة لها بالحياة المعاصرة، ولا تجيب عن أسئلة الواقع المتحول والمتغير ولا تلبي الحاجة الى التقدم والتقدمية الذي يدعيها هذا اليسار. لكنها تريح ضمائرهم وتخدر العقول وتعفيها من متاعب البحث والتفكير، ثقافة هذا اليسار تقوم بوظيفة الافيون الذي تحدث عنه ماركس حين قال: الدين أفيون الشعب لان الثقافة التقليدية السلفية (او الماركسية الرائجة) تعزز الوعي الديني وتعزز الوعي العقائدي والرؤية الدينية والرؤية العقائدية الى العالم والى المجتمع / الجماعة الملة / الحزب الفولاذي العقائدي والى الانسان. هنا نميز الدين والفكر الديني من الوعي الديني والأيدلوجية الدينية والطائفية والطائفية السياسية / الأيدلوجية والعقائدي الستاليني عن الماركسية. ذلك ان ماركس لم ينكر أهمية الدين ودوره في تاريخ البشر حين وصفه بأنه أفيون الشعب، فقد مهد لهذه العبارة الموجعة بقولة: الدين زفرة الانسان المضطهد او المحروم وروح عالم غادره الروح، وتتمة منطقية وخلاصة موسوعية لهذا الواقع البائس، بحيث ان ما يسمي بالأيديولوجية الدينية والأيدلوجية العقائدية هي أحد أشكال الوعي الاجتماعي الذي كان مناسباً لأوضاع اجتماعية متخلفة عن الوضع الراهن
النزعة التراثية او النزعة الطائفية او النزعة العقائدية التي تلبست معظم اليسار في البحرين هي اوضح تعبير عن اغتراب اليساري عن العالم وعن أنفسهم والأدهى ان الجمعيات الطائفية وكذلك اليسارية يدعون إمكانية تأسيس المفاهيم والمقولات والمسائل العصرية الحديثة في الطائفية السياسية كالديمقراطية والمواطنة، وهم بذلك يخدعون الشعب ويخدعون أنفسهم. فمفهوم الديمقراطية غريب عند جمعيات الاسلام السياسي وكذلك عند الجمعيات اليسارية فهي جمعيات نافية للديمقراطية وهي لم تنتج فكراً ديمقراطياً او حياة سياسية ديمقراطية في جمعياتها، فما الذي تعنيه لدى هذه الجمعيات محاولة التأسيس هذه سوى اعادة انتاج التلفيق حتى تغدو الديمقراطية هي الشورى، وتغدو الشورى بديلاً عن الديمقراطية وهذا خطاب مغترب مثل اغتراب مفهوم المركزية الديمقراطية حيث تم فصل المركزية عن الديمقراطية في الجمعيات اليسارية، والاغتراب هنا هو انحكام الناس لمنتجات فكرهم وعبوديتهم لها. والنظر الي مبادئها وأسسها ومقولاتها التنظيمية على انها حقائق كلية ناجزة ونهائية وصالحة لكل زمان ومكان ذلك اننا لم نرى في كل مؤتمرات الجمعيات اليسارية اي مراجعة نقدية سواء لنظامها السياسي او نظامها الداخلي الذي تم إقراره عندما أشهرت هذه الجمعيات في العلن.
لقد عاش اليسار البحريني الاغتراب الحداثي القائم على (الاستلاب) ازاء الاخر المتقدم والمتفوق (سواء الرأسمالي او الاشتراكي) والذي حاول استنساخ تجاربه وإعادة انتاج إشكالياته في المجتمع وصعود او طفو الأفكار والتطلعات الديمقراطية على السطح وحقوق الانسان والديمقراطية في مجتمع راكد والاستلاب نحو الاخر الذي هيمنت فيه (الجمعيات الطائفية السياسية) او التضامنية القبلية السياسية وألبست هذه الطائفية السياسية لبوس الحداثة وادخلها الى جنة الديمقراطية وتقاطع معها فيما كان يسميه الائتلاف العابر للايدلوجيا لتتصدر هذه الجمعيات المشهد السياسي والنقابي والمهني والشبابي والطلابي والنسائي الخ. كل هذا لا يقل خطراً عن الاستلاب او الاغتراب السلفي، او الظاهرة الجهادية له، لا لان هذا اليسار يتوهم إصلاح الجمعيات الطائفية السياسية او القبلية السياسية وبذلك هنا يحاول المستحيل فقط، بل لأنه انطلق من شعور ممض بالدونية وبأنه (فلول) لأحزاب قومية واشتراكية ويعبر عما يسميه بعضهم بالجرح النرجسي في الذات اليسارية بعد الانهيار المدوي للتجارب الاشتراكية والقومية؟ هنا لابد ان نميز في مجال الحداثة هؤلاء المبهورين (بالإسلام السياسي) وبالديمقراطية وحقوق الانسان الغربية التي بعثت في روح الربيع العربي ومحاولة استنساخ تجاربه في تونس ومصر واليمن والعراق والبحرين الخ. من المثقفين اليساريين الذين تمثلوا مفهوم الحداثة وامسكوا بمبادئ الحداثة ومفاهيمها وأسسها المعرفية والعلمية والتقنية والأخلاقية والروحية انطلاقاً من (تمييز الاغتراب) من (وعي الاغتراب) ذلك ان المثقف الديمقراطي العقلاني والذي بوسعه ان يقوم بدور تنويري، وان يقوم بوظيفته الاجتماعية والسياسية هو ذلك المثقف الذي (يعي اغترابه الذاتي) و (يعي الاغتراب الموضوعي (هيمنة الطائفية السياسية) في المجالات الاجتماعية والثقافية والسياسية، ويعمل على نقد ان لم نقل حذف هذا الاغتراب او نفيه جدلياً. اي ذلك المثقف الذي يندرج معرفياً وثقافياً في البديل الوطني او الطريق الثالث المشروع الذي لم يرى النور بعد؟ كل هذا انطلق لدى اليسار البحريني من محاولة البحث عن اجابة صحيحة عن سؤال خاطئً يتعلق بدور اليساري ووظيفته، فقد هيمنت عند هذا اليسار مقولة (الالتزام و الانضباط) احدى الإجابات الصحيحة عن سؤال خاطئ، وكذلك مقولة (المناضل والمثقف الثوري والمثقف العضوي لجرامشي) كل هذا نتج عن حلول ما سمي عندما تشكلت هذه الجمعيات اليسارية (الثقافة الحزبية) او (الثقافة الثورية) محل الثقافة، وحلول (السياسة الثورية) محل السياسة وعن تعصب غالبية الأعضاء للجمعية السياسية الذين بات مطلوباً منهم (التعصب) والدفاع عن الجمعية بكل اخطائها وانزلاقاتها الكارثية (عندما تندفع عجلة التاريخ نحو الهاوية)، لا عن الحقيقة ومبدأ الثقافة هو التزام الحقيقة والدفاع عنها والشجاعة في البوح عنها، ولذلك كان اليساري وتنظيمه السياسي مسؤولاً، لا عن الأخطاء والجرائم التي ارتكبت ووقع فيها هذا اليسار، بل عن تلك التي سوف تقع كما حدث للجمعية المنحلة (وعد)
لقد مهد لاغتراب اليسار في البحرين ما سمي بالصحوة اليسارية كما لدى تيار الاسلام السياسي بالصحوة الدينية، لكي يخرج هذا اليسار الى العمل العلني في ظل الانفراج السياسي والهامش الديمقراطي مع بداية المشروع الاصلاحي وخصوصاً بعد سقوط النموذج السوفييتي اي سقوط احد نماذج الدولة الشمولية، احدث هذا عند بعض اليسار نوعاً من صحوة ضمير متأخرة فراحوا في ظل الهامش الديمقراطي والانفراج السياسي يعملون من اجل / بل يطالبون ب دور سياسي انتزع منهم وتجربة اليسار في البحرين في ظل المشروع الاصلاحي بينت العكس بل بينت ان الكلام عن (الدور الذي انتزع من اليسار هو اقرب الى الضجيج) لقد مارس هذا اليسار سياسات استبدادية صادرت من خلالها الثقافة او امموها، وأمموا حرية المثقف واستقلاله وذاتيته في التنظيم وهم لا يزالون يفعلون ذلك في الجمعيات اليسارية التي لم يتم حلها ولا يزال معظم من يكتب في جرائدهم الالكترونية يستمرؤون هذه اللعبة، وربما لا يزال يحلو لكتاب الأعمدة في تلك الجرائد ان يمثلوا دور الضحية (ب الدور الذي انتزع منهم) وهم في موقع المهيمن والرقيب على من يحاول ان يغرد خارج السرب، بدت الثقافة تتحول الى أعلام والفكر الى ايديولوجية، تحت وطأة المسئول الإعلامي والشلة المؤيدة له والتي تمارس رقابة صارمة: إعلامية وحزبية وأيديولوجية ان لم نقل (أمنية) ويتقمص كل منهم شخصية المستبد، فمن الذي انتزع من اليسارين دورهم في التنظيم وبالتالي في المجتمع؟ كان اغتراب اليسار عندما اعتمد على الصيغة (الستالينية) الجمعية القائمة على مبدأ تجانس أعضائها وتماثلهم، والذي لا يعدو العضو فيه ان يكون رقماً عشرياً، لان القيادة وحدها، ومكتبها السياسي، وامينها العام هي الأرقام الصحيحة وفق تدرج المراتب، بل وفق درجة الولاء للأمين العام والشلة المحيطة به الذي هو صورة مصغرة عن الحاكم وتم تكليف (مثقف) الجمعية لكي يصوغ (خط الجمعية بتوجيه القيادة والتي تم تسميتها في احداث ٢٠١١ بالقيادية السياسية)؟ مثقف الجمعية هو الذي سوغ خط الجمعية، ودافع عنها، وسوغ حماقات القيادة السياسية وتناقضاتها، والويل كل الويل لمن سولت له نفسه ان يخالف هذه القيادة السياسية او ينتقدها او ان يعاملها على نحو اقل مما يعامل المريد شيخه والعبد سيده (فقد كانت صيحات وهتافات لن نركع وسنناضل) في الاجتماع الاستثنائي للجمعية العمومية صدمت من كان بالضد من المشاركة في احداث ٢٠١١وكان الشعار الذي يتم الهتاف به في الخفاء. هو هيهات منا الذلة والتكبير فوق سطوح البيوت ؟! كان الاغتراب هنا ان وظيفة مثقف الجمعية هي الدفاع عن الجمعية أخطأت هذه الجمعية ام اصابت، بل من يستطيع الادعاء ان الجمعية يمكن ان تخطئ، او ان القيادة السياسية تخطئ فما ان يدعي أحدهم سواء في القاعدة او القيادة ذلك يتم عزله والذي يذهب أكثر من ذلك يتم رسمه بالمنحرف والتحريفي والمنشق. هنا المثقف المغترب يتواطأ مع الجمعية على حرية الرأي والضمير، بل على حرية التفكير والتعبير ويتواطأ على عدم الاعتراف بالأعضاء ومشروعية الاختلاف والمغايرة ويتواطأ على عدم الاعتراف بحرية العضو وحقوقه الحزبية، تحت إغواء انهم يمتلكون (المشروعية الثورية في احداث ٢٠١١) والأهداف الكبرى والشعارات الكبرى لتلك الأحداث والأدهى من ذلك ان هذا المثقف المغترب كان يغتبط باضطهاد المثقف المختلف ويتشفى فيه وفي محاولة بلورته لجمعية اخرى تطرح البديل الوطني والطريق الثالث حتى بات مثقفي اليسار المغترب في ذيل جمعيات الاسلام السياسي ورهينة لمراجعها وزعيم المعارضة الشيعية كما تم تسميته حيث تم تفويضه بالحديث باسم الجمعيات اليسارية ؟!
كان وراء اغتراب اليساري في البحرين قوى رمزية لليقينية العلمية واليقينية الثورية (والحتمية التاريخية) التي شلت طاقة الإبداع لدى اكثرية اليساريين، واليقينية على اختلاف صنوفها وتلاوينها، مرض (اليسار الطفولي) والثقافة وداء الفكر واليساريين، من هذا الطراز هم سدنة الحقيقة المطلقة، الناجزة والنهائية، والإنتاج الثقافي تحت رايتها لا يعدو التفسير والتأويل والتفريع على الأصول والمؤلفات الكاملة لمفكري اليسار، في ظل هذه القوة الرمزية التي أممت الثقافية الحزبية، ولم نتحدث هنا عن قوة التقليد وهنا حدث ولا حرج عن اليسار البحريني في هذا المجال، يغدو السؤال التالي مشروعاً: هل وعي اليساري زائف الى هذا الحد؟ ما من شك ان هذه القوي مجتمعة ومنفردة تسهم في انتاج الوعي الزائف، لكن الاجابة عن السؤال بالنفي او الإثبات لابد ان تنطوي على خطأ ما فهناك يساريين يسوغون سياسات جمعياتهم وأيديولوجياتها، ويعون انهم يفعلون ذلك، اي انهم يكذبون ويلفقون ويعرفون انهم يكذبون ويلفقون هؤلاء يعيشون ازدواجية مريرة سببها خوف مضاعف، خوف من السلطة وخوف من الحرية ولهذا الخوف المضاعف أسباب تتعلق بالمتغيرات والتحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي مرت بها البحرين بعد الاستقلال، ولا سيما تغير أساليب الانتاج الذي لم يرافقه تغير في طرائق التفكير وأنماط السلوك وبروز دولة مرسملة ومجتمع متأخر في بني طائفية – قبلية، فهذا اليساري لازال موزعاً بين قطبي هذه الثنائية، هذه الازدواجية في الانتماء أنتجت ازدواجية في الخطاب حتى بتنا لا نعرف خطاب اليساري حيث صار يتشقلب على هاذين الحبلين بطريقة بهلوانية تدهش اي مراقب لليساري البحريني؟، وهنا لا بد ان نحمل هؤلاء اليساريين مسئولية الإسهام في انتاج الظاهرة الجماهيرية القطيعية (التي لاحظناها في كل الحراك في الشارع منذ انطلاقة المشروع الاصلاحي) التي جعلت من الجماهير تتصرف وفق مبدأ الاستثارة ورد الفعل من تظاهرات (الا لقمة العيش الى الشعب يريد إسقاط النظام) ومن ثم يتحمل هذا اليسار مسئولية انتاج ما بات يسمي (الثقافة الجماهيرية السطحية). وإذا كان الخوف من السلطة مفهوماً (بالرغم من ادعاء هذا اليسار انه كسر حاجز الخوف في احداث الكارثة وعاد اليه بعد ذلك)، فأن الخوف من الحرية يكمن في واقع انفكاك علاقة اليساري في السبعينيات والثمانينيات بالبني الاجتماعية التقليدية ومنها الطائفية – القبيلة وان كان جزئياً؟، وشعوره اذ ذاك بالوحدة والعزلة ازاء قوى لا طاقة له في مواجهتها، فلاذ بالأحزاب اليسارية واتخذها متحداً اجتماعياً جديداً وراح مع الوقت وبالتدرج يعيد انتاج انتماءاته الطائفية والدينية والمذهبية والمناطقة والجهوية في هذا المتحد الجديد لكي يحقق لنفسه شيئاً من التوازن المفقود، ولكن اثبت التاريخ ان هذا كان نوع من العبث لذلك راينا كيف تماهي اليساري بالإسلام السياسي وهنا الشيعي بالذات، فما اسهل ان يتحول هذا اليساري من موقع الي نقيضه من دون ان يشعر بتأنيب الضمير، أليس هو صوت الطائفة والطائفية في الجمعية وصوت الجمعية في الطائفة والطائفية السياسية ؟! أليس هو ممثل التقليد المدافع عن الأصالة والخصوصية الطائفية في حضرة الحداثة، وممثل الحداثة في حضرة التقليد والطائفية، الم يقم هذا اليساري في احداث ٢٠١١ وحتى الان بشطارة الحاوي وخفة البهلوان بالتلفيق للتوفيق بين المتناقضات والأضداد.
كما ذكرنا سابقاً الخوف من السلطة والخوف من الحرية يطبعان هذا النمط من اليساريين، الذين يدافعون عن الجمعية لا عن الحقيقة وهنا يتم مقابلة الجمعية بالحقيقة ذلك ان السلطة العليا الممثلة في الامين العام والمكتب السياسي هي تنكرت لحقيقتها الواقعية وما هيتها الفعلية كونها كانت مستبدة في اتخاذ القرارات الاستراتيجية منذ ان تبلور هذا اليسار في جمعيات سياسية، والاستبداد هو استلاب ناجز للأعضاء الذين يشكلون المؤتمر العام او الجمعية العمومية. وهنا لعبت الفئات الوسطى (الآتية من الطبقة الوسطى) التي حاولت ان تقوم بدور تاريخي لم تكن مهيأة له فتوسلت بالأيديولوجيا الدغمائية الجامدة واعلام الجمعية فأنتجت جمعية شمولية والثقافة القطيعية، هنا كان من الطبيعي ان تنظر هذه الجمعيات الي الأعضاء والى المؤتمر العام على انهم مادة طيعة وموضوعاً مجرد موضوع للإرادة الثورية ووقوداً لمعركة احداث ثورة ١٤ فبراير المزيفة التي تلبست اسوء صفات المغامرة ب هؤلاء الأعضاء في مشروع طائفي بامتياز. ان اليساري الذي انفك للتو من روابطه الأولية (الطائفية -القبلية) لم يطق ان يكون حراً، وربما لا يعرف كيف يكون حراً في المجتمع المدني بعد ان عاش فترة طويلة في العمل السري (وهذا ليس تبرير لهم) فالتصق بالجمعية اليسارية وجعل منها طائفته -قبيلته الجديدة. قانون المجتمع المدني هو العشوائية والفوضى مبدؤه هو الحرية، وأساسه هو الفرد. في رحاب المجتمع المدني والذي لطالما نادى به اليسار حيث التنافس على أشده بين جمعيات هذا اليسار وبقية الجمعيات وبالذات جمعيات الاسلام السياسي. ومعيار النجاح هو الكفاءة والجدارة وطاقة الخلق والإبداع والروح النقدي ومشاجرة الكليات، هنا لا يصمد سوى اليساري المحتفظ بفرديته وذاتيته، والذاتية هي الاستقلال والحرية وهذا ما كان مفقود ومفوت لدى اليسار البحريني فلاذ هذا اليساري بالجمعية وغاب في دوائرها السوداء والعصابات المتنفذة حيث يتشابه الجميع ويتفاضلون فقط في درجة الولاء للقيادة (الشلة) التي هي المعيار الأساسي والوحيد الا من تمرد على هذه الشلل فعزز فرديته وذاتيته واستقلاله واختلافه وقدرته على النقد والذي فضل ان يخرج من عالم هذه الجمعيات ويتطهر من اقترافه ذنب المتواطئ على أعضاء الجمعية والسكوت عن الحقيقة . لكيلا تفرض عليه (بحكم الالتزام والانضباط الحزبي) شيئاً سوى ما يفرضه عليه ضميره ووجدانه. فما مدى مسئولية هذا اليسار عما آلت اليه الأوضاع في الدولة والمجتمع وعما ال اليه وضع الانسان فيها؟ ما مدى مسئوليتهم عن هذا الانتكاس الى (الشرخ الطائفي) على جميع الأصعدة، وعن الضحايا الذين ذهبوا بالمجان ؟! وهنا نكمل ما مدي مسئولية هذا اليسار في انتعاش البنى والأيدولوجيات الطائفية (ما قبل القومية) وتحولها الى بنى موازية لبنى المجتمع المدني التي اكتست طابعاً طائفياً تحت مظلة النقابات والجمعيات المهنية والمنظمات الشبابية وتحولها من ثم الى بنى موازية لبنى الدولة او دولة داخل الدولة كما هي التجربة العراقية واللبنانية وبكلمة، ما مدي مسئولية هذا اليسار عن اضعاف المشروع الاصلاحي من الداخل ومن الخارج؟
ان طرح مسألة اغتراب اليسار واليساري في الوقت الراهن تعبر عن محاولة اليسار العقلاني الديمقراطي النقدي استعادة دور اليسار ووظيفته وهي محاولة مهمة لأنها ارتعاشه حياة في جسد اليسار المنهك، او لنقل من يقظة الضمير وعودة الروح لهذا اليسار. مما يعني تغيير زاوية النظر الي العالم والمجتمع والإنسان، اي ان المسألة الأولى في هذه اليقظة هي مسألة معرفيه بامتياز، مسألة المنهج والطريقة (الجدل) عند هذا اليسار قبل ان تكون مسألة المضمون والشكل لهذا اليسار، ان المسألة هي مسألة طابع العلاقات بين الذات والموضوع (اليسار والواقع) مع ملاحظة ان الموضوع أيضاً هو ذات وحياة لكي يطيعنا يجب ان نطيعه لا ان نلوي عنقه، اي ان نعرفه ونفهم منطقه الداخلي وإيقاع حركته تحت مقولتي الضرورة والمصادفة والعشوائية والانتظام وتحت مقولة الجدل (الديالكتيك)،انها محاولة لعودة اليسار ولاستعادة الروح اليساري والروح هي ماهية الانسان. (عضو الجمعية السياسية) اي انها لمحاولة استعادة الانسان (هنا عضو الجمعية اليسارية) ما هيته وهويته وان تستعيد الجمعية اليسارية ما هيتها وهويتها اليسارية، بعد ان أكلتها صفاته كالملتزم والمنضبط والثوري والتقدمي، نريد اليساري أولاً وجميع الصفات الآخرى تابعة كان اغتراب اليسار عندما حول المنهج / الطريقة الي تصور للحياة اي مذهب او دين حيث يسود هنا (التمذهب) في إطار منظومة ايدلوجية واحياناً من خلال سيادة نظرة انتقائية (من الاشتراكية / القومية / الاسلامية) باستخدام منطق القياس اي تم إعطاء المنهج / الطريقة طابعاً محافظاً. هنا فقد المنهج / الطريقة دوره الواقعي كقوة تهدف الى وعي الواقع وتحويله، فقد تم سحق روح المنهج / الطريقة (الجدل) وسحق كل مخالف لتوجه هذا اليسار المغترب، وناقد لمنطقه المحافظ وتم نزع الماركسية عنه، واعتبر معاد للاشتراكية وإمبريالي رأسمالي خائن وذا لون طائفي سني وكثير من النعوت ذات الطابع الأيدلوجي الرخيص، الذي يذكر بمنطق التحريم الديني القديم، الذي كان يجعل كل مخالف او ناقد ملحد ومنشق ومرتد وزنديق الخ. في ظل هذا الواقع وهن اليسار العقلاني الديمقراطي وأصبح دورهم محاصر ليس بعداء (مصدر الشرعية -الجمعيات اليسارية) وفرضت هذه الجمعيات اليسارية على اليسار العقلاني النقدي موقف مزدوج ان يعترف بشرعيتها ويعترف بقيادتها لليسار و (الطبقة العاملة البحرينية) وبعد ذلك من الممكن ان يعاد احتواءه في الجمعية اليسارية ؟! لذلك كانت تؤكد على شعار (من داخل الجمعية تتم العملية النقدية لا من خارجه) وهو شعار ذر الرماد في العيون وهو شعار في مضمونه يهاجم اليسار العقلاني الديمقراطي الذي وصل لقناعة عدم وجود ديمقراطية في تلك الجمعيات لكي يمارس عملية النقد التي تطالب به الشللية المستبدة. بالإضافة الي رضوخ هذا اليسار المغترب في ظل وجود جمعيات الاسلام السياسي والتي لم يتم حلها في ذلك الظرف وشعوره بالحاجة الي الحليف الكبير (المعارضة الرئيسة) جمعية الوفاق والذي فرض على اليسار البحريني تجاهل الصراع النظري ضد جمعيات الاسلام السياسي وهنا كان هناك نصيب اخر من العداء لليسار العقلاني الديمقراطي بحيث كان موقف المنتقدين لتحالف اليسار مع الاسلام السياسي صعباً حيث صدر بحقهم وبحق كتاباتهم (التحريم الكنسي) الذي يعني شطب هذا اليسار العقلاني الديمقراطي، ان ابعاد هذا اليسار العقلاني النقدي قاد الي زيادة في التشويش والاضطراب والخلل في تحديد الرؤية (المنهج / الطريقة) لليسار وقاد الي ضياع كبير اصاب كل المتأثرين باليسار انطلاقاً من انه قادر على ممارسة النقد والنقد الذاتي بعكس الجمعيات الطائفية السياسية المبنية على حذف النقد والنقد الذاتي والانصياع والإذعان والطاعة للمراجع .
بلورت مسألة اغتراب اليسار البحريني حالة من اليأس والإحباط لدى المجتمع وبالذات من جمعيات اليسار التي أشهرت ومن أمنائها العامين ومن المرجعيات الدينية الطائفية ومراجعها المتواطئة على المجتمع. وبالتالي تدنى معها الإيمان ب ثقافة هذا اليسار؟ وعلى هذا اليسار الرسمي ان يجيب عن هذا السؤال، بغض النظر عن مزاحمة وسائل التواصل الاجتماعي وشبكة الانترنت فهذه كلها تستمد مادتها من الثقافة. وقد حاول هذا اليسار ان يستخدم هذا العالم الافتراضي (ك شارع سياسي او فضاء سياسي) فقد أطلق شيوع وسائل التواصل الاجتماعي وشبكة الانترنت موجة من المتحمسين اليساريين من استخدامه لنشر الديمقراطية اي بالتكنولوجيا وحدها. وكثرت المواقع الالكترونية لليساريين والتي اخذت طابعاً شخصياً المفتقر الى الديمقراطية لتشجيع الحوار بين نفس الشلل لكي يلوذوا بها للتنفيس عن مشاعرهم، اي هنا لم يحصل اي تغيير في الانموذج الأساسي للسياسة التي أهلكت هذا اليسار وأصبحت وسائل التواصل الاجتماعي اليسارية متخمة بمهوسيها بالتكنولوجيا، بأولئك المهوسين الدائبين على النقر (على التغريدة) والعاكفين على تنظيم ال (برود كاست) والتويتر التي تكاد تقول الشيء نفسه الذي ظل هذا اليسار السياسي يقوله دائماً. وان كان هذه المرة عبر العالم الافتراضي، وعلى الرغم من زعم هذا اليسار المتكرر ان تدفق المعلومات هو من اليساريين الى الشعب فأن الدلائل تشير الى ان الاتجاه هو العكس هو موجه لهذه الشلل نفسها وفيما بينها وليس ما يوحي بأن هذا اليسار اصبح اكثر وعياً واقل تطرفاً وافلاساً او تعدلت أطروحاته عبر التغريد في العالم الافتراضي بنية الشلل اليسارية الاساسية ثابته – فوق / تحت والاختلاف الوحيد هو شكل التواصل بين هذه الشلل ومريديها، يقال ان من شأن الانترنت، على الأقل ان يشجع الحوار والتفاعل، وان افتراضياً بدلاً من ان يكون شخصياً. غير ان العكس قد يكون حاصلاً، على ما يبدو بدلاً من تشجيع الحوار بين تلك الآراء المتباينة لليساريين وصولاً الى اندماجها، توفر الشبكة (والواتس اب) الخ حشداً من المواقع اليسارية بما يمكن من الاهتداء الى من نتفق معهم فقط وتجنب من نختلف معهم اي ان هذا اليسار الرسمي ينتقي نوعية الأخبار والآراء التي تعكس أهوائه وشطحاته وهوسه الخاصة وتحت عبارة انا متواجد بشكل يومي على هذه المواقع ؟! وكثير من هذا اليسار المحتفل بالديمقراطية التكنولوجية الجديدة يأتي على ايراد أمثلة من (الخارج) حيث جنحت التكنولوجيا في احداث تغيير سياسياً مثل ما حدث في الربيع العربي الكارثي، ونادراً ما يؤتي على ذكر ان هناك أمثلة مأسوية بكثرتها لانطواء التكنولوجيا على نتيجة اكثر ضرراً كما حدث عندنا في البحرين حيث تم تمزيق النسيج الاجتماعي الي احداث شرخ طائفي في المجتمع، وانتشار العنف بكل اشكاله، وكذلك تجربة هذه التكنولوجيا احتجاجات (توتر) في ايران لم تفض بعد الى الإطاحة بنظام وسلطة الملالي الطائفية، أعداد كبيرة من المحتجين الذين استخدموا هذه الوسيلة صاروا في السجون من مثل سجن ايفين سيء السمعة بطهران ومن هؤلاء السجناء الأشهر مستخدمي التويتر الإيرانيين حسين ديرا خشان الذي حكم في عام ٢٠١٠ بالسجن لمدة تسعة عشر عام بتهمة نشر (دعايات) معادية للنظام الاسلامي ، وباستحداث مواقع إلكترونية (فاحشة) الخ من تجارب مثلاً في السودان اثناء حكم الاخوان. وكذلك في الصين فقد اتضح ان الخرطوم تمكنت من توجيه الانترنت ضد المحتجين منشئة صفحات موالية للديمقراطية الزائفة على الفيس بوك. ومعتقلة جميع أولئك الذين خرجوا للالتحاق بركب التظاهرات المعلنة على الموقع فيس بوك. فالصين عاكفة على اجتراح تكنولوجيا شبيهة بتكنولوجيا غوغل لقنص المنشقين وملاحقتهم. لقد كان اغتراب اليسار هنا مأساوي ويتحمل المسئولية في اجهاض الثقافة الوطنية التي تبلورت في البحرين بطابعها الشعبي ومحتواها اليساري والتقدمي وليس بوسع هؤلاء اليسارين ان يعفوا من مسئوليتهم في انتكاس تلك الثقافة اليسارية والاغتراب كان هنا في (الثقافة الثورية ) التي تجسدت في احداث ٢٠١١ الكارثية التي انقطعت عن جذورها الليبرالية بمحتواها الإنساني والعقلاني والديمقراطي مسؤولة مسئولية مباشرة عن هذا الإخفاق الذي نعيش اليوم نتائجه وتداعياته الخطأ معيار لا يقل أهمية عن الصواب، والإخفاق معيار لا يقل أهمية عن النجاح .
انتهينا الى ان الخطأ معيار لا يقل أهمية عن الصواب، والإخفاق معيار لا يقل أهمية عن النجاح لكي يتم التنويه الى ان المرحلة او السنوات الأولي من المشروع الاصلاحي وتحت مظلة الوثيقة السياسية ميثاق العمل الوطني والعودة الى الحياة الدستورية والحريات العامة (المرحلة الليبرالية) بما أوجدته من نتائج عملية تحديث بنية الدولة (التسلطية) وبما أضافته اليها، المرحلة التي أطلقت امكانات نمو مجتمع مدني له مجال سياسي مشترك تتجابه فيه وتتقاطع جمعيات سياسية مختلفة ومتعارضة، ولكنها متحاورة سواء تحت قبة البرلمان او المجالس البلدية او في المجال السياسي المشترك وعودة المنفيين وتبيض السجون، وأطلقت حرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة سواء الرسمية او صحافة الجمعيات السياسية وان كان ذلك بالتدرج فكانت البحرين مثلاً تعج بالصحف والمجلات من كل لون وطيف ومن كل اتجاه، وكانت الثقافة قد بدأت تتأسس وتنمو بصفتها مجالاً اجتماعياً مستقلاً ، وبدت السياسة أيضاً تتأسس وتنمو بصفتها مجالاً اجتماعياً مستقلاً وكان الاسلام السياسي لا زال لم يعلن عن اجندته التسلطية وتطلعاته الى الانقلاب على هذا المشروع الاصلاحي بل كانت السنوات الأولى سنوات ذهبية له وعاش فترة التمدد راسياً وافقياً في المجتمع وكانت له الحصة الكبرى في المجالس البلدية وفي البرلمان وفي تنظيمات المجتمع المدني الحداثية وبالذات هيمن على النقابات والاتحادات النقابية والجمعيات المهنية في الوزارات الخدماتية الخ. حتى جاءت (ثورة شباب ١٤ فبراير) في فترة الاحتفال بمرور عشر سنوات على الميثاق الذي مكن نسبياً جمعيات الاسلام السياسي من الهيمنة والسيطرة على المؤسسات (البرلمان -المجالس البلدية) وعلى مؤسسات المجتمع المدني) نقول جاءت احداث ٢٠١١ فقطعت هذه السيرورة. وما يخص اليسار هنا كان هناك رأي لا بأس بانقطاع هذه السيرورة اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً لو ان اليسار على الأقل احتفظ بالعنصر الليبرالي للمشروع الاصلاحي والعنصر الإنساني والعقلاني والعلماني والديمقراطي وادمجوه (كما كانو يدعون سندخل الحراك لكي نغيره من الداخل، ولا نقدر ان ننعزل عن الحراك الجماهيري، سننزل لنثقف الجماهير الخ) في الحركة الاجتماعية والحراك السياسي وفي الثقافة الثورية (الملتزمة والمسئولة)، ولكن ما جري ويجري حتى اليوم كان على خلاف ذلك ؟! الان لا تنطوي الكتابات والسجالات الكثيرة التي قام بها الاتجاه العقلاني الديمقراطي النقدي لهذا اليسار الرسمي او الرائج وكذلك لجمعيات الاسلام السياسي بضفتيه الشيعي / السني لمفهوم الثورة المزعوم على التهوين من مسألة أهمية وشأن التحولات الاجتماعية والسياسية والمطالب والمصالح المشروعة الذي يدعي ذلك الحراك بانه يتبناها بل تنطوي على اعادة بناء مفهوم (التغيير) بدلالة مقولة التقدم، وذلك لتعرف الأسباب العميقة التي أدت الي افراغ تلك التحولات المهمة من مضمونها. ولعل من ابرز هذه الأسباب محاولة القوى التي سيطرت على الحراك ولا زالت بوجه عام فرض عقيدتها ومذهبها ومضمونها الطائفي ورسالتها ومبادئها على المجتمع، وضمن اغتراب اليسار هنا لم يحرك ساكناً ازاء فرض مشروع وعقيدة ورسالة الاسلام السياسي على المجتمع بل كان الأسوء هنا قام بدور مساند وأعطاها الغطاء اليساري لكي تنجز هذا المشروع الظلامي على المجتمع بالعسف والإكراه، ذلك لان اليسار كان جزءاً عضوياً من هذه (الثورة المزعومة) وكان اكثر تطرفاً في ثوريته ويساريته (وتقدميته) من باقي السياسيين ؟!، فأنتج في المجتمع نوعاً من تطرف اخر غير تطرف الجمعيات الطائفية الاصولية – الجهادية ؟! ولم يحتج او حتى يستنكر الشعارات الزائفة واشكال العنف من حرق اطارات وسكب زيت في الشوارع وتفخيخ السلندرات الخ. بل أعطاها الصبغة القانونية (بأنه إذا كان هناك عنف فهناك عنف مضاد) ولكل فعل رد فعل؟، ولم يحتج هذا اليسار على احتكار هذا الاسلام السياسي للحراك والذي تملك في ذاك الحراك (القوة -الوهمية) وإخراج المجتمع تدريجياً من عالم السياسة ومن ثم من عالم الثقافة التي باتت ثقافة موطأفنه فرضت على المجتمع العودة الي ثقافة الطائفية والطوائف ؟! فالاغتراب الذي يشكو منه اليساري اليوم هو نتيجة لنزع طابع الكلية الوطنية ومن ثم المعقولية من الحقل الثقافي المجتمعي لتحل محلها ثقافة طائفية – مستبدة، ولنزع السياسة من المجتمع لتحل محلها السياسة الطائفية ونتيجة نهائية لجعل الناس (ملة واحدة وبالقوة)، وهي محاولة عبثية على كل حال، لأنها تعاند واقع التعدد والاختلاف والتعارض، اي تعاند الواقع الفعلي، وتتوهم انها قادرة بالعسف وبالإكراه على تغيير ما لأيمكن تغيره هنا كان الاغتراب عبر وقوف اليسار الي جانب استبداد الجمعيات الاصولية – الجهادية، لا على الصعيد السياسي فحسب، بل على الصعيد الثقافي أيضاً ، فكان ان ابتلعه الاستبداد الديني – الطائفي وحوله الى اداة من أدواته وذيل من ذيوله وبوق من أبواقه في النهاية يستطيع هذا اليسار الرائج والجمعيات الطائفية السياسية التي لا يزال يحن اليها ان تجبر الناس على ان يفعلوا ما يريد او ما تريد تلك الجمعيات، ولكنها لا تستطيع حملهم (وبالذات اليسار العقلاني الديمقراطي النقدي) على ان يفكروا كما تريد او يريدون، او ان يقتنعوا بما ترى او يَرَوْن .
اغتراب اليسار البحريني يعود الى انه خضع لرأي وقرار وممارسات سياسية سواء لما سمي بالقيادات السياسية في الجمعيات اليسارية او لأمناء ومراجع دينية -طائفية، لكي يتم احلال الجزء (الجمعيات) (الملة والنحٌلة او الجمعية او الطبقة) محل الكل، وجعل هذا الجزء كلاً، وذلك هو جذر الاستبداد. وهو جذر إقصائي (لليسار ولهوية اليسار الوطنية) ان لم نقل انه الغائي عندما تم إعطاء وكالة وتفويض لأمين عام جمعية الوفاق للتحدث باسم تحالف (جمعيات المعارضة بما فيها الجمعيات اليسارية)، والذي يقوم على إلغاء اليسار ودفنه والتحدث باسمه ؟! اي إقصاء هذا اليسار واستبعاده عن التفاهمات والتسويات والمساومات والصفقات الخ. بين تلك المعارضة الدينية الطائفية والحكم كما كانت تأمل تلك المراجع ؟! اي الى ان يلغي وجود هذا اليسار الفعلي على الخريطة وخارطة الطريق السياسية، ويتم منح اليسار بدلاً منه نوعاً من وجود وهمي قوامه العطالة والتبعية والامتثال والطاعة لتلك الجمعيات الدينية -الطائفية ؟! هنا كان اغتراب اليسار على المستوي الأيديولوجي بوجه خاص، ولا سيما (الأيديولوجية الثورجية) دينية كانت ام (علمانية) جعلت اليساري والملالي على السواء يعيشون مع السلطات المهيمنة في جمعياتهم في واقع من صنع أوهامهم، لا يمت الي الواقع الفعلي للمشروع الاصلاحي والسيرورة سوى بصلة التخارج والتنابذ والتناحر والتفاصل، واقع ادخل البحرين في ليل دامس، للجميع (والقطيع) فيه رأي واحد وموقف واحد، ولكن حين نتحدث عن ما كان يسميه هذا اليسار بالتقاطع والمصلحة المشتركة مع تلك الجمعيات الطائفية – الدينية ستغدو هذه الوحدة شكلية وصورية وهشة الى أقصى حدود الهشاشة، وأساس هذه الهشاشة هو حلول الامتيازات لتلك الجمعيات الطائفية محل حقوق الجمعيات اليسارية، لذلك بعد انهيار مشروع الدوار الكارثي وتداعياته من حل جمعيات واصطفاف جديد لجمعيات يسارية فضلت ان تسبق حلها بنوع من الترقيع بأيديولوجيتها وان اخذت كما تري الجمعيه المنحلة وعد بعداً انتهازياً لجمعية المنبر التقدمي عندما فضلت ان تشارك في الانتخابات البرلمانية ٢٠١٨. ان منطق الواقع لابد ان يفرض نفسه، وهو انه ما بني على تكتيك خاطئ وتسوية خاطئة كان مصيره الفشل والخسارة وذلك هو مكر التاريخ ومكر العقل وإلا فما معني هذا السقوط لليسار امام هذه التجربة المشروع الاصلاحي على يد جماعة الدوار اليسارية وهنا حتى الان لم يكلف هذا اليسار نفسه البحث والتنقيب والتساؤل عن الأسباب الفعلية العميقة لذلك السقوط في الهاوية لكي يكتشفوا منطق الواقع ومنطق التاريخ؟ هذه المهمة وهذا المشروع اضطلع بها اليسار الديمقراطي العقلاني النقدي، بقدر ما لديه من نزوع الى الخروج من واقع السقوط الى الهاوية التى ادخلنا فيها هذا اليسار الرائج. هي عودة وكانت طرحت على شكل (دعوة) ضمن إطار ورقة نقدية (رؤية نقدية حول احداث ١٤ فبراير وموقف المنبر التقدمي منها صدرت في ٢١/ ٦ / ٢٠١١بقلم سامي سالم ومجموعة من رفاق المنبر) وهي عودة باتت واجبة وضرورية لكي يتخلى اليسار الرائج عن مسبقاتهم ويقينياتهم وايمانياتهم ومقدساتهم (الأيديولوجية)،وان يشحذ هذا اليسار العقلاني النقدي أدواته المعرفية دائماً وابداً ليمارسوا هذه العملية النقدية المعرفية لكي يعيدوا للواقع السياسي والفكري والتنظيمي انشاء صورته الفعلية في الذهن من دون رغبات وأوهام . هذه المهمة، هي (وعي الواقع) لا تزال تنتظر اليسار البحريني وستظل تنتظره إذا أمهله العالم الداخلي وأمهلته تحدياته القديمة منها والجديدة فرصة التبلور والفعل السياسي؟ وفي هذا السياق لا بد من الإشارة الى المصاعب والتحديات التي تعترض هذا التوجه العقلاني اليساري النقدي والذي يعيش مواجهة غير متكافئة مع الشلل اليسارية الرائجة التي جمعت في يدها الرأي والسيف من جهة، ومع معادلها الموضوعي (الأصوليات المتطرفة الدينية -الطائفية التي جمعت هي الآخرى في يدها الرأي والخنجر من جهة اخرى. اي هذا التوجه لليسار النقدي المتجرد سوي من حريته واستقلاله وإخلاصه لوطنه ولقضايا الانسان وصاحب ضمير ووجدان أولاً. معظم اليساريين متوجسون من هذه المواجهة غير المتكافئة مع اليسار الرائج ومعادله الموضوعي الأصوليات المتطرفة، ويحاول البعض (جسر الهوة) بينهم وبين اليسار النقدي، وليس هناك من هوة الا في اذهان هؤلاء (المتفرجون والصامتون) الذين يقفون في هذه الهوة المفترضة ويحاولون ملاءها بالكلام عن ضرورة العودة الى هذه الجمعيات اليسارية الرائجة ؟! الهوة الحقيقة هي بين أعضاء هذه الجمعيات اليسارية والشلل المستبدة فيها.
إذا حاولنا وضع الأمور في نصابها لا بد لنا ان نعترف ان المجتمع واليسار في البحرين أنتج مجال ثقافي وطني، في سياق عملية الانتاج الاجتماعي بجميع منطوياتها المادية والمعرفية والروحية وان المجال الثقافي الوطني الذي كانت تموج به الساحة الثقافية الوطنية في البحرين هو الذي أنتج المجال السياسي وبالتالي فان المجال السياسي ارتقى بالمجال الاجتماعي / الاقتصادي وعزز هذه الثقافة الوطنية. وكما يرى مفكرو اليسار ان في ثقافة كل أمة عنصر ديمقراطي هذا العنصر الديمقراطي هو بالضبط درجة من درجات انبساط الروح اليساري (الإنساني) ونموه في ثقافة هذه الأمة او تلك استطاع اليسار طوال تاريخه فهم ان السياسة تحول باليات شديدة التعقيد الأهداف الفردية والخاصة، والمصالح الفردية والخاصة، الى أهداف ومصالح عامة ولكن بتوسط الثقافة اليسارية ووعي هذا اليسار ان الثقافة الوطنية هي التحديد الذاتي الأولي والضروري للفرد بوصفه عضواً في الجماعة (جبهة التحرير – الوطني والجبهة الشعبية ) ومن ثم عضواً في المجتمع والدولة . في المجال الثقافي فقط، وبالثقافة الوطنية فقط (التي تربى عليها كوادر (جبهة التحرير -الوطني)، يتحول ما هو فردي او (كادر) محض وفئوي خالص الى كلي عام (وطني) فالثقافة الوطنية في أعمق مستوياتها واهمها على الإطلاق، هي بسط وإنماء لما هو عام وكلي (وطني) في الأفراد والجماعات والفئات الاجتماعية، ومن ثم فإنها الشرط الضروري بانبثاق السياسة اليسارية بوصفها مملكة الحقوق والقوانين، بالتعارض مع مملكة الأعراف والتقاليد كان اليسار واعي لهذه الوظيفة والمهمة. بعد كل هذا التاريخ الوطني نجد ان اليسار واليساري قد اغترب عن هذا الفهم والوعي بهذا الواقع ؟! كان دخول الاسلام السياسي على الساحة الثقافية عنصر حسم هنا في تغيير بوصلة الرؤية اليسارية وان كان عبر عملية مكر وتقية سياسية ؟! ولكن استطاع هذا الاسلام السياسي بضفتيه (الشيعي / السني) ان يتسرب بهدوء ليحتل ويؤسس ثقافة طائفية ودينية متطرفة وذلك عبر قراءة تاريخ الحركة الوطنية البحرينية والاطلاع على أدبياتها وصحفها ومجلاتها الحزبية وتطويعها لكي تخدم هذه الثقافة الطائفية -الدينية لكي ينتج مجاله السياسي. وكان ذلك يحدث في غفلة عن اليسار او لنقل ان اليسار وخصوصاً مع بدايات انهيار المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي ساعد هذا اليسار الاسلام السياسي كي يعمل في حقل سياسي وحقوقي وثقافي كان يتلمس فيه خطواته الأولي نحو طأفنة السياسة والثقافة الوطنية، لم يكن هذا اليسار واعي لخطورة هذا الاسلام السياسي الذي صار منافس لهذا اليسار بل يهيمن على نفس جماهير هذا اليسار كما شاهدنا بالعين المجردة منذ احداث ٢٠١١ وحتى قبلها بكثير ؟! وهنا تقع المسئولية على لجان القيادة في كل من جبهة التحرير الوطني والجبهة الشعبية فيه تتحمل وزر هذه الخطيئة سواء في داخل البحرين او خارجها
في عملية اغتراب اليسار البحريني تشكل مسألة الوعي في فترة تبلور اليسار وكذلك في الظروف الراهنة اساس اي عمل يساري ديمقراطي. فكيف تشكل هذا الوعي في البدء وماذا عن معرقلات هذا التشكل؟ نظرية المعرفة تقول بإن تشكل الوعي يأخذ سيراً متقطعاً ومتناقضاً وهذا ما يجعله معرضاً (للانحراف) عند المنعطفات التاريخية مثلاً في فترة دخول الاسلام السياسي على الخط اليساري سابقاً وفِي احداث ٢٠١١ من الممكن تلمس احدى مخاطر تشكل الوعي الحقيقي (المكافئ) والمقارب بالواقع وحركته، الا وهو الجانب الذاتي (احزاب اليسار السرية ومن ثم لاحقاً الجمعيات اليسارية العلنية) اما المستوى الاخر لعملية (الاغتراب اليساري) او لعملية زيف الوعي فهو المستوي الموضوعي، اي طبيعة المصالح الاجتماعية هذا المطب الذي وقع فيه اليسار عندما نسق وتعاون في فترة ما قبل المشروع الاصلاحي وتحالف مع جمعيات الاسلام السياسي في ظل المشروع الاصلاحي ؟ هنا الوعي الممكن وحوامله الاجتماعية سواء في اليسار البحريني او عند الاسلام السياسي (المصلحة الاجتماعية في ذاتها) غير المعبر عنها بعد تعبيراً واعياً من قبل الاسلام السياسي مقابل المصلحة الاجتماعية لذاتها عند اليسار (وعي هذه المصلحة الاجتماعية)، حيث انقلبت الصورة هنا عندما تم التنسيق والتعاون مع الاسلام. السياسي؟ وهذا يجعلنا نشهد أكثر من تعبير سياسي -ايديولوجي لهذه المصلحة الاجتماعية الواحدة بين اليسار والإسلام السياسي، اي ما يمكن تسميته بالتعبير السياسي -الأيديولوجي المتفاوت عن مصلحة اجتماعية واحدة في ذاتها (هنا ما قبل المشروع الاصلاحي العودة الى الحياة الدستورية والحريات العامة) وفي اثناء المشروع الاصلاحي (التحول الديمقراطي ضمن إطار دولة المؤسسات) اي التعددية السياسية ضمن الحقل الواحد عند اليسار كان (بورجوازي او بروليتاري) وعند الاسلام. السياسي (طائفة شيعية / طائفة سنية)، ان ما يبرر ظهور تنوع في التعبير السياسي -الأيدلوجي عن مصلحة اجتماعية (مصلحة طبقة واحدة) عند اليسار و (مصلحة طائفة واحدة) عند الاسلام السياسي هو تفاوت شرائح هذه الطبقة كما هو في ذاته والمعرقلات الذاتية (التفاوتات الذاتية في الطبقة) عند اليسار والتفاوت الطائفي عند الاسلام السياسي ليشكل سواء عند اليسار او عند الاسلام السياسي وعي (مكافئ) مقارب للواقع. لقد غاب عند هذا اليسار ان الحديث عن الوعي المطابق او المكافئ او المقارب للواقع مسألة امتياز مفهوم الطبقة class الحديث (البورجوازي)، امتيازه على مفهوم الطبقة القديم (الفئة المغلقة) caste المراتب او الطوائف. من ثم تركيز اليسار الديمقراطي النقدي على مفهوم (التضامنيات الطائفية او العصبيات الطائفية) ليأخذا الحيز الأكبر من التحليل بدل مفهوم الصراع الطبقي الذي تم تغليفه بالصراع الطائفي مما طرح مهمة ازالة هذه الغمة؟ فرجوع الاسلام السياسي الى الولاءات والانتماءات الطائفية المغلقة طرح مهمة كشف خطورة هذه الجمعيات على الوحدة الوطنية للشعب. فالطبقة الحديثة من منطلق مفهوم اليسار هي طبقة مفتوحة، اي إمكانية الحراك الاجتماعي والانتقال من طبقة الى اخرى، وان مسألة الوعي تكون هنا منفتحة، ويمكن ان تنقل أحد أفراد طبقة الى طبقة اخرى، بعكس الطوائف والطائفية هي مغلقة. ومن هنا أيضاً أهمية الوعي المستقل للطبقة المتقدمة تاريخياً واليسار الذي من المفترض ان يمثلها. ونصل هنا الى ان تفاوت التعبير السياسي، يمكنه، في شروط محددة -ان ينقل اصحاب وعي ما الى حقل الخصوم الاجتماعيين. كما حدث لليسار في البحرين؟ لهذه الاعتبارات يتوجب معالجة مسألة التحالفات والتنسيق والتعاون بانتباه شديد، بما يعفي اليسار من التعاطي كما حدث مع اعتبارات مجردة ومجانية من نموذج القوى الاصولية -الجهادية وجمعياتها وتياراتها المختلفة.
الفكر اليساري يربط مقولة الاغتراب بمقولة العمل والإنتاج الاجتماعي، انطلاقاً من العلاقة الجدلية التي اقامها، في الفكر اليساري بين (النظر والعمل) او (النظرية والممارسة) اي بين الذات والموضوع. بداية الانسان و (هنا) اليساري يموضع ذاته اي فاعليته الحية (الحزبية) الواعية والهادفة، بتوسط العمل (الممارسة) اي يحول ذاته الى موضوع لنفسه وللآخرين فالذات الانسانية (هنا اليسارية) (العقل والعاطفة والخيال والنظرية) تغدو محتويى منتجات العمل (الممارسة) الموضوعية، وبهذا تكون عملية التموضع هي ذاتها عملية تذويب بدرجة معينة، اي ان ناتج العمل الإنساني (الممارسة اليسارية) هو وحدة الذات والموضوع. هذا المبدأ البسيط، سينمو في جميع مجالات الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية فالبشر و (اليسارين) لا يقومون بعملية الانتاج التوزيع والتبادل والاستهلاك، بل انهم حين يفعلون ذلك ينتجون المعرفة والثقافة والعلاقات والتنظيمات الاجتماعية (تنظيمهم السياسي) وينتجون السياسة في نهاية المطاف. عملية التموضع هي اغتراب الذات في الموضوع، وهنا (عملية تموضع اليسار في تحالفه مع الاسلام السياسي) هو اغتراب الروح اليساري اغتراب الروح الإنساني كما هي عملية اغتراب الذات في الموضوع في منتجات عمل البشر المتنوعة، تلك هي الخطوة الأولي الضرورية، ثم تأتي بعدها الملكية الخاصة لوسائل الانتاج (كما تملكت الجمعيات الطائفية السياسية الجمعيات اليسارية) التي تهيمن على المجالات الاجتماعية الاقتصادية والثقافية والسياسية، وتجعل من الذات التي تموضعت في نتاجات العمل، ملكية خاصة او تابعة لملكية خاصة (هكذا تملك الاسلام السياسي المسيطر اليسار) فتغربت منتجات العمل (كما تغربت ممارسة اليسار) عن المنتجين المباشرين، وتغترب الذات المتموضعة في نتاجات العمل العضلي والذهني عن العالم الذي غدا عالم الملكية الخاصة، وتغترب بالضرورة الذات عمل ذاتها (هنا اليساري عن يساريته) في الوقت نفسه، وهنا تبدو الملكية الخاصة (وتملك الاسلام السياسي لليسار) علة الاغتراب ومظهر تجليه في الوقت ذاته . وحين تغترب الذات في ناتج عملها (واليساري في ممارسته)،وعن ناتج عملها او ناتج الممارسة اليسارية التي غدتً ملكية خاصة لغير المنتجين (لغير اليساريين للإسلام السياسي) يبدو لها وجودها الوهمي في عالم الملكية الخاصة على انه وجودها الفعلي وهذا هو المصدر الاجتماعي للخطأ وضلال الفكر عند اليسار ؛ اذ تغدو الأفكار والمفاهيم والمبادئ والرؤى التي تسوغ عالم الملكية الخاصة (وعالم تملك الاسلام السياسي لليسار) وتسهم في اعادة إنتاجه هي الأفكار والمفاهيم والمبادئ والرؤى الواقعية الصحية والمشروعة، وتغدو معايير الصحة او مطابقة الحقيقة ومعايير المشروعية، هي تلك التي تضعها الملكية الخاصة (ويضعها الاسلام السياسي) في جميع المجالات، ومن ثم فهي معايير مؤسسة على اغتراب الانسان (او اليساري) عن عالمه وعن ذاته . ان وعي الاغتراب لدى اليسار هو الشرط الضروري لتجاوزه والثقافة الوطنية ذات المحتوى الإنساني والعقلاني والعلماني والديمقراطي بالتلازم هي التي تساعد البشر (واليساريين) على وعي واقع اغترابهم عن العالم وعن ذواتهم، فلم يتمكن الانسان من السيطرة على الطبيعة والشروع في انتاج ذاته في التاريخ وفِي العالم الا بعد ان انفصل عن الطبيعة ووعي ذلك الانفصال او الاستقلال وهذا لا يعني ان الانسان قد كف عن كونه كائناً طبيعياً بل يعني انه اكتشف حقيقته بصفته طبيعة تعي ذاتها. وبالقدر ذاته لا يستطيع الانسان، الفرد (او اليساري) ان يعي فرديته او يساريته ومن ثم عضويته في الجماعة او الجمعية وفِي المجتمع ما لم يعي استقلاله عنها وانفصاله / اتصاله بها وعنها (عن الطبيعة) لان كل انفصال هو اتصال وكل فصل هو وصل، ولكن في مستوى اعلى وارقى كما حدث في الخلاف بين اليسار العقلاني الديمقراطي النقدي واليسار الرائج.
الانفصال / الاتصال الذي تحدثنا عنه في الحلقة السابقة في عملية اغتراب اليسار البحريني يؤكد ان الانفصال هو الأكثر ايلاماً، كما هو عندما يتم فصل الطفل بقطع الحبل السري مع والدته عند الولادة وكذلك فإن انفصال اليسار عن الاسلام السياسي المسيطر هو بالنسبة له أكثر ايلاماً من الانفصال عن الاتجاه العقلاني الديمقراطي النقدي ؟! وهذا يطرح أهمية الانفصال الأولي للإنسان عن الطبيعة، وكذلك انفصال العامل عن نتاج عمله اي انفصال المنتج عن ناتج عمله، وهذا الانفصال في ظل الملكية الخاصة وفِي ظل تملك الاسلام السياسي لليسار ينتج اغتراباً مزدوجاً، اغتراب المنتج عن عالمه واغترابه عن ذاته، واغتراب اليساري عن فكر اليسار واغترابه عن ذاته اليسارية هنا نحن في العمل المضيع، او العمل المغترب، سواء كان العمل يدوياً ام ذهنياً خالصاً. الذات الانسانية او (اليسارية) لا تضيع في المنتجات المادية فحسب، حيث تغدو العلاقات هنا بين الأشياء علاقات اجتماعية، والعلاقات الاجتماعية علاقات شيئية اي علاقات بين الأشياء صنعها البشر؟ بل تضيع أيضاً في الأعراف والمعتقدات والعادات والتقاليد والطوائف والمذاهب (والإسلام السياسي المسيطر) الجملة المفضلة لدى جمعية وعد المنحلة. بين العلاقات والتنظيمات الاجتماعية وتمثيلاتها السياسية (جمعيات الاسلام السياسي)، فتغدو منتجات عمل الانسان وممارسات اليسار التي انفصلت عنهم اي عن منتجيها قوة طاغية تتحكم بهم وتستعبدهم، الانسان و (اليساري) أصبح عبد منتجات رأسه ويديه وممارسته السياسية المنفصلة عنه اغتراباً والمستقلة عنه في صيغة قوى سواء مادية (ثروة ورأسمال) واجتماعية وايدلوجية -سياسية يمثلها (الاسلام السياسي المسيطر)؟ ومن ثم فإن عالم الاغتراب هو عالم مقلوب، (ناتج العمل يتحكم في المنتج) (الاسلام السياسي يتحكم في اليسار السياسي) ووعي الاغتراب من قبل اليسار هو المقدمة الضرورية لإيقاف هذا العالم المقلوب على قدميه بدلاً من رأسه، ومن ثم استعادة اليساري عالمه واستعادة ذاته و (هويته) الضائعة في الاسلام السياسي، اي استعادة اليساري موضوعية العام ومعقوليته في الذات اليسارية، والتصالح من ثم مع تاريخه وافكاره اليسارية ووحدته المفقودة والتي ضيعها بتنسيقه وتعاونه وتحالفه مع الاسلام. السياسي، ان تملك اليسار لحريته وإرادته عبر التحرر من هيمنة وتملك الاسلام السياسي له، ومن ثم فإن حذف الاغتراب او الاستلاب او الضياع هو استعادة اليسار لحريته وإرادته.
لاستلاب اليسار البحريني أنواع ودرجات وجدت ما قبل المشروح الاصلاحي وتبلورت بعد المشروع الاصلاحي والاستلاب كان في المجال الطائفي المذهبي الديني والفراغ السياسي الذي قامت جمعيات طائفية سياسية بملئه ؟! حيث تم اخراج اليسار هنا من (اللعبة السياسية) وتم تحيد فكره ووضعه خارج ذاته؟ خارج عالم العيان والمشاهدة بل والأدهى انه وضعه في يد الملالي فأفقر نفسه بقدر ما أغنى الملالي ورجال الدين (الاسلام السياسي) وهنا تحول اليسار الى مجرد بائع في سوق السياسة وهو ادهى أشكال الاستلاب لأنه حول اليسار الى مجرد زائدة لحمية ملصقة بالملالي وجمعياتها الطائفية السياسية وتابعة لها، بحيث تحولت ثقافة اليسار ومعارفه تنتج تحت وطأة الاستلاب والتشيؤ والتسليع (من سلعة) تباع وتشترى في مزاد السوق السياسي. فهل بوسع اليسار واليساري ان يخرج او بالأصح ان يتحرر من عالم السلطة الطائفية السياسية المستبدة ومن عالم السلطة الاستبدادية بشكل عام وخصوصاً من استبداد الشلل اليسارية التي لا زالت تلعب دور في تمزيقه؟ وينطلق الى عالم الشعب ورحاب المجتمع المدني، اي عالم الحرية، معترفاً بافرادية الواقع وبمشروعية الاختلاف وبحقوق متساوية مع ذلك للجميع ومحلقاً بعيداً عن الاسلام السياسي؟ هذا هو التحدي وهذا هو الرهان اي هل يستطيع التحول من خادم ذليل للجماعات الإسلاموية الطائفية واستبدادها والجمعية اليسارية المستبدة لكي يكون سيد نفسه فقط ويخرج من عالم الاستبداد والعبودية ومن عالم (الجماهير والثقافة القطيعية) ومن عالم الديمقراطية الشعبية والديمقراطية التوافقية سيئًة الصيت، ومن عالم الجمعية الواحدة واللون الطائفي الواحد والرأي الواحد ؟؟ وان ينزع الي الكلية الاجتماعية (الوحدة الوطنية) وان ينمي هذا النزوع لدى كل الأفراد الآخرين، فالنزوع الى الكلي هو القاسم المشترك (وليس الشراكة الطائفية) بين جميع الأفراد. اتينا على المعني الفلسفي لمفهوم اغتراب اليسار البحريني او الاستلاب او الضياع او الانخلاع لتأكيد انه على اليساري ان ينتج ذاته في التاريخ وفي العالم عملية الانتاج هذه تعني ان العالم، عالم اليساري يغدو شيئاً فشيئاً من صنع اليساري ذاته، من إنتاجه. وبالتالي فإن استعادة اليساري جمعيته السياسية التي اختطفتها الشلل المتطرفة اليسارية هو حذف الاستلاب هذه الاستعادة تعني ان اليساري قد ضمن استقلاله وحقوقه وحريته وجسد روحه اليسارية، وانه ليس للديمقراطية معني ادق او اهم من هذا المعني الذي يشعر فيه اليساري انه عضو مشارك وفعال ومسئول في جمعيته السياسية وقد شرع في استعادة ذاته واسترداد ارادته.
المرجع: كتاب قضايا النهضة، للكاتب: جاد الكريم الجباعي