تحدثنا في الورقة الاخيرة المنشورة على موقع التغيير الديمقراطي الالكتروني عن الاقتصاد التشاركي او التعاوني كبديل عما يشهده الواقع من تعثر وجمود سواء القطاع العام او القطاع الخاص وانعكاسات هذا على الوضع المعيشي المتردي للمواطن. في هذه الورقة سوف نطرح هذا البديل بالتفصيل لكي تتضح اهمية هذا القطاع الاهلي او التعاوني او التشاركي لمستقبل التنمية وارتباطه بالتحولات العالمية ضمن إطار ما يسمي ثورة المعلومات والذكاء الاصطناعي وثورة المواصلات يقابلها محاولة تجاوز الرأسمالية عبر تبلور الاقتصاد التشاركي او التعاوني في المجتمعات. على الرغم من ان التعاون بين الناس. مورس طوال التاريخ البشري، فقد بدأت الحركة التعاونية كشكل من اشكال تنظيم الاعمال التجارية، وكرد فعل لانتشار الفقر خاصة بين العمالة الماهرة التي فقدت عملها الذي صاحب الثورة الصناعية في اوائل القرن التاسع عشر، وقد تم انشاء الجمعيات التعاونية حينئذ لتعزيز مصالح وتلبية احتياجات الافراد الاقل قوة في المجتمع. حيث وجد المنتجون والمستهلكون عبرها انه يمكنهم تحقيق احتياجاتهم بشكل جماعي منظم أكثر مما استطاعوا بشكل فردي.
الجمعية التعاونية: جماعة مستقلة من الاشخاص طبيعيين او اعتباريين، اتفقوا طوعياً على ان ينضم بعضهم لبعض لإنشاء مشروع يكون الغرض منه ان يتيح لهم الحصول على المنتجات والخدمات التي هم في حاجة اليها، ولتحقيق مصالحهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المشتركة ويقومون بأنفسهم بتسيير وادارة مشروعهم وفق مبادئ اساسية للتعاون، بهدف بلوغ الاهداف المشتركة. وتشمل التعاونيات المنظمات الاقتصادية غير الربحية التي يملكها ويديرها الاشخاص الذين يستخدمون خدماتها (مثلاً التعاونية الاستهلاكية) او من قبل الافراد الذين يعملون فيها (التعاونية العمالية) نموذج لما فعلته نقابة البا لعمالها. او من قبل الناس الذين يعيشون فيها (التعاونية السكانية) والتعاونيات الهجينة مثل تعاونيات العمال التي هي أيضاً تعاونيات استهلاكية واتحادات ائتمانية في نفس الوقت، وتعاونيات اصحاب المصلحة المتعددين مثل تلك التي تجمع منظمات المجتمع المدني المختلفة والتعاونيات ذات الجهة الادارية والمستفيدين من الخدمة، لتوفير احتياجات المجتمع من مرافق وخدمات عامة كالطاقة والمياه وخلافه. التعاونية ككيان قانوني يملكها جماعياً ويسيطر عليها ديمقراطياً اعضائها، الذين غالباً ما يكونون في ارتباط وثيق معها كمنتجين لمنتجاتها او مستهلكين لخدماتها. وعلى الرغم من ان التعاونيات تختلف في نوع وحجم العضوية، ويتم تشكيلها لتلبية الاهداف المحددة للأعضاء، وتنظم على التكيف مع الاحتياجات المتغيرة للأعضاء فان الاستقلال الذاتي، وديمقراطية الادارة، وباب العضوية المفتوح، والعائد على المعاملات، والمساهمة الاقتصادية للأعضاء، هي السمات المميزة والاساسية للتعاونيات. ان الجمعيات التعاونية ماهي الا شكل من اشكال التنظيم الجماعي التشاركي لإمكانيات بشرية لتحقيق غايات واهداف اقتصادية في الدرجة الاولي، واجتماعية في الدرجة الثانية، لا تقوم على فكرة (الربح) بقدر ما تقوم على فكرة تقديم السلع والخدمات وفرص العمل اللازمة، وتوزيع هذه السلع الخدمات بشكل يتناسب مع حاجات افرادها وظروفهم، وبالمقابل يسهم هؤلاء الافراد في تكاليف جمعيتهم بصورة تتناسب مع حجم الخدمات التي يحصلون عليها من الجمعية. ويقوم هذا التنظيم او الاسلوب على قواعد وتقاليد تعاونية، وهذه القواعد تحدد الإطار العام للجمعية التعاونية وتميزها عن غيرها من التنظيمات الاقتصادية والاجتماعية الآخرى. والتعاونية هي منشئة شعبية ينضم اليها الافراد بصرف النظر عن انتماءاتهم السياسية او الدينية او المذهبية او العرقية او القومية وبمحض ارادتهم واختيارهم الحر، اي انها جمعية اشخاص لا جمعية اموال، وديمقراطية يتساوى اعضائها في حقوق التصويت والانتخاب والترشيح واتخاذ القرار، ولكل عضو في الجمعية صوت واحد فقط مهما كان عدد الاسهم التي يملكها والجمعية مستقلة ذاتياً عن الدولة وعن المؤسسات الرأسمالية، وهي اقتصادية واجتماعية في وقت واحد. وتعتمد على جهود اعضائها الذاتية. حيث تعمل على زيادة دخل افرادها وفق المبادئ الاقتصادية القائمة، وتعمل في الوقت نفسه على حماية افرادها وتحريرهم من سيطرة الملاك والتجار والمرابين الرأسماليين، ويوزع العائد على المعاملات اي العمل في حالة انتاج سلعة او الخدمة والاستهلاك في حالة استهلاك السلعة او الخدمة، ولا تهدف الى تحقيق أكبر قدر من الربح، بقدر ما تهدف الى تقديم الخدمات وتوزيعها بشكل عادل بين الاعضاء.
ان طرحنا لهذا البديل وهو القطاع التعاوني الاهلي او التشاركي كمشروع ينافس مشاريع الدولة والمشاريع الرأسمالية اي (القطاع العام والخاص) ينطلق من ان هناك فروق بين مشروع الجمعيات التعاونية ومشاريع الدولة او المشاريع الرأسمالية، ذلك ان النظرية الاقتصادية للجمعيات التعاونية تستند على فكرة تحرر العامل من سلطة صاحب راس المال، وتوفير المستهلك ما يكسبه التاجر والوسيط منً ربح، واعفاء المقترض من ما يربحه المقرض من فوائد ربوية، وتوفير المستأجر ما يحصل عليه مالك العقار من ريع، ويكون ذلك عن طريق انشاء منظمة جماعية لتحقيق المصلحة المشتركة للأعضاء واشباع حاجاتهم. ان التعاونية تقوم على فكرة التعاون والتكافل بين الاعضاء المنتجين والمستهلكين، ومن ثم تقديم مصالح المنتج والمستهلك والمقترض والمستأجر على مصالح مالك الرأسمال، ومن هنا فمعظم العائد يوزع في حالة انتاج السلعة او الخدمة على اساس الانتاج، وفي حالة استهلاك السلعة او الخدمة على اساس حجم الاستهلاك. اضافة الى ان الجمعية التعاونية منظمة يملكها الاعضاء جماعياً لا يكون همها الاساسي هو تحقيق الربح، بل هدفها تعظيم المنافع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لجميع المالكين فالفائدة محدودة على راس المال، والفائض الذي يتحقق من التعامل مع غير الاعضاء لا يتم توزيعه على الاعضاء. وانما يضاف الى الاحتياطي. اما عن الادارة الديمقراطية للتعاونية، فالسلطة العليا فيها للجمعية العمومية لكل اعضائها، ويتمتع كل الاعضاء بصوت واحد بصرف النظر عن عدد ما يملكوه من أسهم مع وضع حد اعلى لملكية العضو من الاسهم من اجمالي راس المال حتى لا يسيطر عضو او تكتل او شلة من الاعضاء على شئون الجمعية. وتحدد سياستها الجمعية العمومية للأعضاء والادارة المنتجة من الاعضاء، ونادراً ما يسمح بالوكالة في التصويت او التزكية. ثم ان التعاونية مؤسسة طوعية بابها مفتوح للعضوية مما يلزمها بتسهيل الانضمام اليها والمساهمة الاقتصادية فيها التي هي شرط العضوية، ومن ثم فالتعاونية تقوم على فكرة الاندماج والشراكة بين العمل ورأسمال والادارة، وهذا يعني عدم استخدام التعاونية الانتاجية للعمل المأجور والعمل الجبري لغير الاعضاء. التبادل للسلع والخدمات بين التعاونيات يقوم على نفس اسس التعاون حيث يوجد مبدأ التعاون بين التعاونيات واتحادها من أسفل الى اعلى، ومصادر راس المال للتعاونية يأتي من مساهمات الاعضاء الذين لهم حقوق الملكية والتصويت، او من المقرضين والمتبرعين الذين لا يكون لديهم حقوق الملكية او التصويت ويتكون رأسمالها من أسهم اسمية غير محدودة العدد وغير قابلة للتجزئة. والحد الأدنى لراس المال يختلف من نوع الى اخر. هنا الاعضاء فقط هم من يملكون الاسهم، التي لا يسمح بتداولها في السوق بالبيع والشراء، وان لا يجوز التنازل عنها للغير. وتوزع العوائد على الاعضاء بعد خصم فوائد الاسهم، والاموال المخصصة للاحتياطيات والمخصصة للتعليم والتدريب وخدمة المجتمع المحلي والادارة، ويتم تعيين جزء من صافي العائد، لإعادة الاستثمار، والعائد يقتصر على نسبة مئوية تحددها سياسة التعاونية. يضع الاعضاء في التعاونية سياسات وخطط وقواعد الانتاج والاستهلاك والاقراض والتأجير، سواء من خلال المجالس المنتخبه او المديرين المعينين من الجمعية او مباشرة من خلال الجمعيات العمومية وظروف العمل يحددها قانون العمل واجتماعات الاعضاء، او عبر الحوار الداخلي بين الاعضاء والمديرين. هذا بالنسبة لمشروع التعاونية.
عند مقارنة المشروع التعاوني كبديل في الوقت الراهن تطرحه النخب المثقفة هو ضرورة ملحة في ظل هذا التردي الحاد في الوضع المعيشي للمواطنين وخصوصاً انه كانت هناك تجارب سابقة في البحرين نجحت الى حد ما في تفعيل تعاونية استهلاكيه. للمقارنة بين المشروع التعاوني ومشاريع الدولة سوف نرى الفرق في الجانب الهيكلي لكل منهما فمشاريع الدولة هي تلك المشروعات الانتاجية او الخدمية التي تقوم على اساس الملكية العامة، والتي تهدف بصفة اساسية الى تحقيق المصلحة العامة، بتوفير السلع والخدمات للمواطنين، وادارة الموارد العامة. من الجانب السياسي ارادة الدولة ممثلة في قرارات كبار موظفيها (البيروقراطية المركزية) هي من تسيطر على المشروعات العامة وهي التي تنظمها وتؤسسها ، وتديرها من المستوى المناسب من الحكومة، مركز او محافظات، وتحدد الحكومة سياساتها وخططها وقواعدها، وتحدد الاجور، وساعات العمل، وتوجه العمل عبر الاوامر الادارية لكبار بيروقراطي جهاز الدولة، واحياناً بمشاركة الاتحادات العمالية كما كان في بداية المشروع الاصلاحي وغابت بعد كارثة الدوار، ومن نافل القول ان الممارسة العملية لحقوق الملكية العامة وسلطاتها تتم من وعبر كبار بيروقراطي وموظفي الدولة والحكومة. هنا ظروف العمل يحددها قانون العمل الذي تشرعه الدولة وسابقاً كان عبر مفاوضات جماعية والان انتهت هذه المفاوضات الجماعية. وتحصل الدولة على ارباحها، وتتحكم في توزيعها على بنود مصروفاتها في الموازنة العامة للدولة باعتبارها من الايرادات العامة.
اما المقاربة بين مشروع التعاونيات ومشاريع الشركات الرأسمالية يظهر لنا الفرق المهم وهو ان الشركات الرأسمالية هدفها هو كسب (الارباح) وزيادة قيمة الاسهم في حالة الشركات المساهمة يسيطر عليها المستثمرون وتتأسس بموجب قانون ذات الصلة بعكس التعاونيات او التشاركيات. ففي الشركات الرأسمالية اي شخص يمكنه شراء الاسهم في حالة الشركات المساهمة والاسهم يتم تداولها في السوق العام في حالة الشركات المساهمة، ويمكن بيع وشراء الحصص والاسهم وتجزئتها والتنازل عنها عموماً. بعكس ما هو معمول به في التعاونيات او التشاركيات. ففي الشركات الرأسمالية يحصل على الارباح الملاك الفردين في المشروعات الفردية، وملاك الحصص في شركات الاشخاص، والمساهمين في شركات الاموال. الشركات الرأسمالية يحدد سياستها المستثمرين والمساهمون او مجلس الادارة. ويجري التصويت على اساس قيمة الاسهم او الحصص المملوكة، ويسمح بالتصويت بالوكالة. ومصادر راس المال هي مساهمات المستثمرين وقروض البنوك وصناديق التقاعد وارباح الشركات التابعة او من خلال الاحتفاظ بكل الارباح او جزء منها. توزع الارباح على المساهمين على اساس عدد الاسهم المملوكة، ولا يوجد حد للمبلغ الذي يحصل عليه الملاك او مجلس الادارة. والملاك او المديرين هم من يحددون خطط الانتاج وسياسة التشغيل، وقواعد العمل، ويحددون الاجور وساعات العمل، واحياناً بمشاركة النقابة العمالية كما كان في بداية المشروع الاصلاحي وليس الان، وظروف العمل يحددها قانون العمل والذي يمكن التلاعب عليه من قبل الرأسماليين وسابقاً كان عبر المفاوضات الجماعية وليس الان وأخيراً تدفع الضرائب على ارباح الشركات وهنا في البحرين الى الان لا توجد الضريبة التصاعدية على الشركات.
عندما قارنا بين مشروع التعاونيات ومشاريع الدولة والشركات الرأسمالية وبينا الفروق بينها ولكن ما مدى كفاءة النظام التعاوني؟ كل الدراسات تشير الى ان رأس المال وفخ الديون الى ان التعاونيات تميل الى ان تكون حياتها اطول من الانواع الآخرى من المشاريع الفردية، وبالتالي فالمشاريع التعاونية لديها فرص اعلى في الاستدامة من المشاريع الرأسمالية. وتشير الى ان معدل بقاء التعاونيات على قيد الحياة بعد ثلاث سنوات من تأسيسها ٧٥ بالمئة، في حين كان معدل ٤٨ في المئة فقط بالنسبة لجميع المؤسسات الرأسمالية والفردية، وبعد عشر سنوات كان ٤٤ في المئة من التعاونيات لا يزال على قيد الحياة دون افلاس او غلق، في حين كانت النسبة ٢٠ بالمئة فقط لجميع المشاريع الرأسمالية (ذلك ان المصارف التعاونية تبني احتياطيات هائلة لمواجهة التقلبات الدورية للسوق ومن ثم تعمل جيداً في حالة اي ازمة)، وبالتالي فهي الاقل احتمالاً لتوريط نفسها واعضاءها نحو فخ الديون. ويفسر ذلك بديمقراطية ادارة التعاونيات التي تقلل من خطر القرارات الضارة الناتجة عن السعي الجشع للربح، وبالتالي تؤدي الى عدم انزلاق التعاونيات الى (الفقاعات الاقتصادية) التي تنتج عن المضاربات والمساهمات الرأسمالية المتهورة وغير العقلانية. كما يشير التقرير الى ان النموذج الاقتصادي النيو ليبرالي. الذي يبدو مسيطراً الان على الاقتصاد العالمي، لا يخدم المصالح طويلة المدى للمجتمع، لأنه يعتمد على انتاج الحوافز الضارة للاستثمار والفقاعات الاقتصادية التي كثيراً ما تدمر الثروة، على الاقل بالنسبة للغالبية العظمي من الناس في حين ان التعاونيات من ناحية اخرى، برهنت على ان لديها اليات أكثر ثباتاً واستقرار لخلق الثروة لأعداد أكبر من الناس. وتعاونيات الاسكان، سواء نظمت حول استئجار منزل او ملكيته، تساهم بشكل كبير في تجنب فقاعات الاسكان. فقد كان الرهن العقاري الثانوي في (الولايات المتحدة الامريكية) مصدراً رئيسياً للازمة الاقتصادية العالمية (٢٠٠٧ – ٢٠١٢) وقد اتضح ان ازمات الاسكان ضعيفة او معدومة في البلدان التي يكون فيها النظام التعاوني السكني قوي بشكل خاص، مثل المانيا او النرويج. وهو ما يؤكده تقرير الحلف التعاوني الدولي عن الثلاثمئة تعاونية الاكبر نجاحاً في جميع انحاء العالم.
في ظل هذا التردي الحاد للوضع الاجتماعي للمواطنين وزيادة البطالة وعدم توفر فرص العمل وفي ظل غياب حلول عملية لمشكلات الواقع الاجتماعي والاقتصادي، تبرز مسألة التعاونيات كحل عملي لمشكلات الواقع الاجتماعي والاقتصادي، بدلاً من انتظار الاصلاح (المتعثر) او الطلب من الدولة او البرلمان او مجلس الشورى تلبية المطالب، حيث نسمع جعجعة ولا نري الطحين او ان يتم تكرار كارثة الدوار بما سمي بثورة كانت لو نجحت لأحرقت الاخضر واليابس والعودة بنا الى القرون الوسطى كما هي في لبنان والعراق وسوريا الخ. ان الحل العملي يأتي بتأسيس التعاونيات هو ممكن نجاحه واستمراره مع قدر من المقاومة للراغبين والمصرين على حل مشاكلهم في الواقع الان، وليس غداً، وبأنفسهم وليس بيد غيرهم، والتحرر والاستقلال الذاتي حتى ولو كان التحرر والاستقلال، نسبيان، وحتى لو محدودان على اساس ان التحرر والاستقلال الذاتي خيار شخصي ومسئولية شخصية، وانطلاقاً من اهمية تحمل الفرد مسئولية نفسه، في اطار حياة الناس القصيرة، اما ان نتحمل كل الام وبؤس الناس غير الراغبين في الحرية والاستقلال، بل والمدافعين عن واقعهم ومعارضتهم البائسة سواء في الجانب السني او الشيعي ، فتلك مثالية مدعاة، وعلى الناس في النهاية تحمل مسئولية انفسهم وان يتحرروا من اغترابهم وتبعيتهم للآخرين وان لا نفرض نحن عليهم التحرر، لكن يمكننا فقط ارشادهم لو رغبوا. ان النضال الاقتصادي من اجل تحسين شروط العمل والحياة للشعب وللعمال المأجورين والمتراكم عبر عقود، والمقتصر على (رفع الاجور العينية والنقدية) لا التخلص من نظام العمل المأجور نفسه، ساعد على نشوء ونمو واستفحال ظاهرة التضخم النقدي، وزيادة الاسعار للسلع والخدمات وفرض الضرائب والرسوم والحد من الخدمات التي تقدمها دولة الرعاية كحل لدعم الميزانية العامة للدولة ولسداد ديونها. كما حدث في الماضي بعد قرار الدول الصناعية الكبري بطبع النقود دون اي غطاء مادي من الثروة الحقيقية بدءاً من السبعينيات من القرن العشرين في العالم، رداً على ازمة الركود التضخمي التي اكتسحت العالم في ذلك الوقت، والذي انتهى بالاقتصاد في العالم من اقتصاد حقيقي قائم اساس على انتاج السلع والخدمات المتعلقة بإنتاج تلك السلع، الى اقتصاد وهمي قائم على الديون والمضاربات على السلع والاوراق المالية ومشتقاتها حالياً. وسيناريو الحكومات والرأسماليين لكم يقول تريدون زيادة في الاجور، نعم سوف نلبي لكم مطالبكم، وتطبع الحكومات نقوداً تعطيها لكم، دون غطاء من انتاج حقيقي، (تضخم العملة) ومن ثم سوف ترتفع اسعار السلع والخدمات، لتلتهم ما حصلتم عليه من زيادة في الاجور، ولتستمر الدوامة واللعبة بيننا بلا نهاية، وسوف تستمرون خاضعين مأجورين لدينا تلهثون وراء ارتفاع الاجور لتعوضوا ارتفاع الاسعار، وقد تحصلون على بعض اللحم والجبن على الرغيف فقط الذي اعترضتم عليه، ولكن ذلك احياناً في اوقات الرخاء وعندما يشتد ضغطكم علينا حتى لا ينفجر نظامنا، ولكنكم سرعان ما سوف تخسرون الجبن واللحم في اوقات الكساد والازمات، وتطردون من سوق العمل للتهميش والبطالة، حتى يخف ضغطكم علينا، ونأمن جانبكم، فلا تحصلون حتى على هذا الرغيف. ينتهي هنا هذا السيناريو.
التعاونيات وارتفاع الاسعار.
ان الدولة كرب عمل سواء بقطاعها العام او ضمن رب العمل الاخر البيوتات التجارية سماسرة الشركات العالمية يضعهم امام المواطنيين وبالذات الحكومة هي المسئول الاول والاخير عن ارتفاع او انخفاض الاسعار باعتبارها اكبر رب عمل واكبر تاجرة يشترون منها احتياجاتهم، فضلاً عن مسئوليتها عن ارتفاع وانخفاض الاجور باعتبارها اكبر صاحبة عمل توظف معظم العاملين باجر، ومما يبدو الان بأن الدولة والحكومة تحاول ان تتخلي عن دورها كصاحبة عمل وكتاجرة لصالح قوى السوق، وهو الاسم الذي يطلقه الاعلام على الرأسماليين وهي تعمل أيضاً من اجل دفع كثير من المواطنين للدخول في عقلية الرأسمالية وانشاء شركات فردية ذات طابع ربحي الكثير منها يتعلق بقطاع الخدمات مثل المطاعم والتي انتشرت مثل الفطر في البحرين ؟ وهؤلاء الرأسماليين سواء البيوتات العائلية السماسرة للشركات العالمية او الرأسماليون الجدد الذين أصبح بإمكانهم وحدهم تحديد اسعار معظم السلع واجور معظم العاملين باجر بعيداً عن اي تحكم او رقابة. وان كانت الدولة ما زالت توظف قوة العمل المأجور بالرغم من سياساتها الاخيرة في تسريح كتلة كبيرة من العاملين سواء المهنيين او الذين يؤدون خدمات لهؤلاء المعنيين في المؤسسات الخدمية مثل وزارة الصحة ووزارة العمل والتربية الخ عن طريق سياسة التقاعد الاختياري او التقاعد المبكر مما يجعلهم يعملون في القطاع الخاص، سواء في القطاع الرسمي منه او غير الرسمي. وإذا ما كانت الدولة مازالت تحدد اسعار بعض السلع كمنتجات البترول والغاز الطبيعي الخ فان بعض من السلع خرجت عن سيطرتها. الا ان الدولة يمكنها اتخاذ سياسات مالية معينة تكبح ارتفاع الاسعار، او بالعكس تطلق لها العنان، الا انها امكانية في الوضع الراهن ليست مطلقة، لان لها علاقة بتوازنات قوى اقتصادية وسياسية واجتماعية متنفذة. وفي ظل برلمان ضعيف كل ما يهمه هو البصم على كل ما يطرح عليه من سياسات ليست في صالح المواطن ومن هنا فنحن امام واقع مختلف عما اعتاد عليه الناس مع بداية المشروع الاصلاحي وما زال راسخاً في وعيهم الجمعي؟ حيث كان العاملين باجر يسعون لتحسين مستوى معيشتهم ودخولهم في الغالب بأحد طرق الحل الفردي، مثل ممارسة بعضهم العمل الاخر بجانب العمل الاصلي، وممارسة بعضهم للفساد الاداري، وممارسة بعضهم الاعمال الحرة كالتجارة ولعب دور الكفيل للعمالة الاجنبية. واما عن الحرفيين والمهنيين والمنتجين الصغار فيمكنهم غالباً رقع اسعار سلعهم وخدماتهم، واحياناً وفي ظل الهامش الديمقراطي المتاح كانت الجمعيات السياسية والعاملين باجر يمارسون النضال الجماعي بالاحتجاج والاعتصام والى حد ما الاضراب بالرغم من الطابع الطائفي الذي كان يسم تلك الاحتجاجات والذي كان موجهاً غالباً ضد الدولة وضد البنوك او المؤسسات التي تقوم بالتسريح للعمالة الوطنية باعتبارها صاحبة او رب العمل الاول والتاجرة الكبرى، وذلك اما لرفع الاجور وتحسين دخولهم وشروط عملهم او خفض اسعار السلع والخدمات، واعادة المفصولين من اعمالهم وكان هذا يمارس اما على نطاق جزئي في احد مصانع القطاع العام، او الخاص او على نطاق جماهيري كانت تدعو له الجمعيات السياسية الى ان دخلنا في (حين تندفع عجلة التاريخ الى الهاوية) كارثة الدوار لندخل في واقع اجتماعي واقتصادي وسياسي جديد ! وبرغم من طبيعة النضال الاقتصادي الذي مورس في فترة الهامش الديمقراطي مع بداية المشروع الاصلاحي الا انه كان يقترن بمسحة من نضال سياسي او طائفي باعتباره موجه ضد الدولة. في ظل الوضع الحالي من التردي الحاد في الوضع المعيشي للمواطنين مازال يمكن لبعض العاملين باجر لدى الدولة والقطاع العام ممارسة الاحتجاج فقط عبر قنوات التواصل الاجتماعي في مواجهتها لرفع اجورهم وتحسين شروط عملهم، الا ان العاملين باجر في القطاع الخاص لا يملكون ترف ممارسة هذا الاحتجاج الا باستثناء قطاع محدود جداً منهم. وهم العاملين في قطاع او منشئات كبيرة او كثيفة العمالة، ليبقى معظم العاملين باجر وخصوصاً في القطاع غير الرسمي عاجزين عن الاحتجاج الاقتصادي نظراً لأوضاعهم الوظيفية غير المستقرة، والجدير بالذكر انه في ظل الارتفاع المضطرد في البطالة والركود الاقتصادي، يصعب للعاملين باجر الضغط على اصحاب العمل لتحقيق مطالبهم بشكل عام، سواء صاحب العمل الدولة او القطاع الخاص، وسواء في القطاع الرسمي او الغير رسمي.
إذا كان الوضع الذي ذكرناه على جبهة (رفع الاجور وتحسين شروط العمل)، وهو ما لا يمكن ان يمارسه سوى قطاعات من العاملين باجر بشروط محددة، فان هناك جبهة اخرى هي جبهة (خفض الاسعار) وهو ما يمكن ان يطالب من اجله المستهلكون الذين يشكل العاملين باجر غالبيتهم العظمى. وهناك شكلين من اشكال المطالبة في تلك الجبهة، الاول هو تنظيم حملات مقاطعة للتجار لإجبارهم على خفض الاسعار (حملة خله يخيس) كمثال وهذا يستلزم درجة عالية من الوعي والارادة الجماعية والتصميم لدى غالبية المستهلكين ودرجة عالية من التنظيم والقيادة الجماهيرية واسعة النفوذ وسط الغالبية الساحقة من الجماهير وهو ما لا تملكه اي قوى سياسية او اجتماعية في مجتمعنا في ظل وجود المجتمع الاستهلاكي؟ مع الاخذ في الاعتبار انه برغم نجاح هذه الحملة فان الاسعار يمكن ان تعاود ارتفاعها بعد انتهاء المقاطعة. الثاني هو تنظيم حركة (تعاون استهلاكي) توفر احتياجات المستهلكين من السلع والخدمات المختلفة بأسعار تزيد قليلاً عن التي يبيع بها المنتجون سلعهم وخدماتهم. وهو ما سوف يخفض من اسعار السلع والخدمات، لأن ما يحصل عليه سواء المستوردون او تجار الجملة والتجزئة يرفع من اسعار السلع والخدمات، اضعافاً مضاعفة عن اسعار المنتجين، وخصوصاً مع زيادة حلقات الوساطة في مجتمع يفضل رأسماليو الاستثمار في التجارة والمضاربة عن الاستثمار في الانتاج. ذلك ان ربح تجارة الجملة في القطاع الخاص تحقق ارباحاً كبيرة، ناهيك عن ربح تاجر التجزئة، وكذلك ربح المصانع، والتي يصل ربحها كبيراً في بعض الصناعات. إذا وضعنا كل ذلك كله في الاعتبار، سنجد ان مجرد تعامل الجمعيات التعاونية او التشاركية او القطاع الثالث مع المصانع مباشرة، سواء في الداخل او الخارج، سيحقق وفراً كبيراً نتيجة الاستغناء عن الوسطاء الذين يتربحون من الوساطة بين المصنع والمستهلك دون ان يحققوا قيمة مضافة تذكر. كذلك فان حصول الجمعيات التعاونية على حصة مناسبة من سوق البيع سيجعلها قادرة على تحسين شروط التفاوض مع المصانع والشركات والمزارع، هذا يتوقف بالتأكيد على الحشد الذي تمثله الجمعيات التعاونية. والجدير بالذكر بأن هناك عقبات امام هذا النوع من المطالب الا انه من الممكن التغلب عليها، بمعارضة سياسية تحرر التعاونيات او التشاركيات من سيطرة الدولة وقوانينها، وممارسة اشكال من التعاونيات الاستهلاكي واقعياً خارج الإطار القانوني والرسمي، كما انه من الممكن ممارسته في البداية على نطاق محدود لا يلبث ان ينتشر. ولنرى هذا السيناريو كيف تكون قواعد اللعبة هنا. ما هو الاكثر عملية في مقاومة جشع الرأسمالية، يستطع العمال على سبيل المثال ان يضربوا من اجل زيادة الاجور، والرأسماليين لن يمانعوا فهم يستطيعون رفع الاسعار، وما كان يشتريه العامل بدينار أصبح لا يمكن شرائه بدينارين، بعد رفع الاجور والاسعار، وفي النهاية وبرغم زيادة الاجور فالعامل ما زال عبداً للأجر. ومن ناحية اخرى يستطيع العمال ان ينشئوا جمعيات استهلاكية فيوفرون من اجورهم ما كان ينهبه المستورد وتاجر الجملة وتاجر التجزئة، ويصبح في امكانهم بدل شراء رغيف ان يشتروا رغيفين بنفس الاجر، على سبيل المثال، ويستطيعون بما وفروه من نقود، ان ينشئوا تعاونيات انتاجية يتحررون فيها من عبودية العمل المأجور لدى الغير سواء الدولة او الرأسماليين.
التعاونيات والمهمشين.
مع تردي الوضع المعيشي الحاد في الفترة الحالية وبعدم وجود فرص عمل وزيادة في اعداد العاطلين عن العمل وتدفق قوة بشرية جديدة من خريجي الجامعات اصبح البحث عن وظيفة هاجس يومي لهم لانهم خارج قوة العمل الفعلية وكذلك لوجود قوة عمل تعمل باليومية في القطاع غير المنظم من الاقتصاد في المنشئات الصغيرة وكذلك من يعمل بعقد مؤقت من خريجي الجامعات او من فرض فترة تدريب لمدة شهور لكي يتم تثبيتهم في الوظيفة سواء كان في القطاع العام او الخاص هؤلاء كأنهم يعيشون يوماً بيوم ولن ينفع معهم فرض حد ادني او اقصى للأجور، وهم معرضون لاستغلال الشركات الخاصة والتجار واصحاب المحلات وهم محرومون تماماُ من اي شكل من اشكال الضمان الاجتماعي، وتشتريهم القوى السياسية بما يسمى بالإحسان، وينهب منهم رجال الادارة في الحكومة والشركات الخاصة عبر سياسة الوظيفة المؤقتة وفترة التدريب والخبرة التي يمكن ان تستمر الى مالا نهاية. فالمهمشون اكتسبوا اسمهم لأنهم يعملون على هامش الاقتصاد، ويتواجدون على هامش الحياة، والمهمشون هم من ليس لديهم دخل محدد، ولا تعترف لهم الدولة بوضع محدد قانوني؛ ومن ثم لا تمنحهم اي تامين اجتماعي ما عدا بدل التعطل وهو مبلغ زهيد لا يمكن العاطل من ان يستقر اقتصادياً واجتماعياً. باختصار فأن المهمشون هو ذلك القطاع من الطبقة العاملة سواء كان العمل يدوي او ذهني غير المنظم ولا المستقر، والذي يعمل غالباُ في القطاع غير الرسمي من الاقتصاد، وهذا باب يفتح عليهم نار جهنم فقد ينحدر بعضهم الى الادمان والجريمة ويتم استغلالهم من قبل قوى سياسية متطرفة. ونلامس هنا ملاحظة مهمة، وهي ان قطاعاً كبيراً من العاملين المستقرين والمنظمين بالحكومة في القطاع العام وكذلك القطاع الخاص، ونظراً لأجورهم المتدنية واوضاعهم الوظيفية يشاركون المهمشون اوضاعهم المعيشية والاجتماعية، واعمالهم وطرق الحصول على دخولهم كنوع من الازدواج في الوضع الاجتماعي. هناك واقع جديد يتحقق امام انظارنا، واسبابه لا تكمن في سياسة الدولة التي هي تعبير عن الضرورات الحاكمة في الاقتصاد العالمي حالياً، وليست مجرد تعبير فقط عن مصالح النخب الحاكمة او البيوتات التجارية سماسرة الشركات العالمية فقط كما يحاول ان يوهمنا من يقوم بالتحريض العدمي من الذين يصدرون خطاباً غوغائياً لجذب تأييد الجماهير لهم، هؤلاء الذين يدعون بأنهم يملكون الحل الناجع للمشكلة عبر الدولة، لو اتيحت لهم فرصة حكمها او وصولهم الى مجلس الشورى والبرلمان، وحل المشكلة في النهاية لا يكمن في سلطة الدولة اي دولة، حيث ان جذورها تمتد خارج نطاق الدولة. تكمن الظاهرة في تغيرات حدثت في الواقع الاجتماعي والاقتصادي العالمي يتجلى في خضوع الحكومات لديكتاتورية سوق الاموال العالمية والمضاربة فيها والفقاعات التي امتدت في كل بقاع العالم وهي دكتاتورية تغل يد الدولة اي دولة عن مواجهة المشكلة التي تهدد وجودها ذاته، هذا الواقع يؤدي الى تضخم التهميش في العالم كله على نحو مضطرد، سواء اكان هذا لارتفاع نسب البطالة، او ارتفاع نسب العمالة غير المستقرى. وتزداد نسبهم في البلاد المتخلفة عنهم في البلاد المتقدمة.
لعل اهم اسباب تضخم التهميش هو الاتمتة الصناعية وكذلك دخول الثورة المعلوماتية والان الذكاء الاصطناعي مجال الانتاج حيث ظهر كتاب مهم سمي بانتهاء عصر الوظيفة عبر اسلوب جديد في الادارة مما جعل الحكومة تستخدم مفهوم الحكومة الالكترونية كل هذا ادى الى الحد الكبير من العمالة المستقرة والمنظمة والماهرة، فالمصانع التي كانت تحتاج الي الكثير من العمال اصبحت تعمل تماماً وبقدرة وبدقة اعلى بكثير بعدد عمال يعد على الاصابع ومن ثم تتقلص العمالة في المنشئات الكبيرة التي تتطلب الانتظام والاستقرار لصالح تضخم العمالة في المنشئات الصغيرة التي لا تتطلب الانتظام والاستقرار، ولا مجال بالطبع للعودة الى التكنولوجيا اقل تطوراً واقل انتاجية. لكي توفر فرص عمل لتشغيل المزيد من العمال، ولن يقبل الرأسماليون، ولن تتحمل مشاريعهم التي تعاني من الركود أصلاً تقليل ساعات العمل للعامل لإتاحة الفرصة لتشغيل المزيد من العمال، بل ان ما يحدث فعلياً هو استغلال الرأسماليين لظروف البطالة والتهميش المتصاعدة لتشغيل العمال المستقرين عدد ساعات عمل اكثر مما هو قانوني، وإلا فأن مصيرهم سوف يكون الطرد من العمل، والرأسماليين ليسوا في حاجة لتشغيل المهمشون بل انهم يضخون في حجمهم باستمرار، وذلك بطرد وفصل المزيد من العمال المستقرين والمنظمين لديهم ودفعهم الى عالم التهميش، والمهمشون في نفس الوقت لا يستطيعون الضغط على هؤلاء الرأسماليين من اصحاب شركات رأسمالية او ادارات حكومية او منشئات صغيرة الذين يرتبطون بالعمل معهم على نحو بعقد مؤقت او تحت التدريب او من غير تثبيت، من اجل تحسين ظروف عملهم وحياتهم لأنهم مجرد افراد فاقدين للفاعلية، كونهم غير مرتبطين بعقود مع الشركات والحكومة او كونهم غير مترابطين او موحدين وبلا اي تنظيم نقابي، ومن ثم فهم القطاع الاكثر بؤساً وضعفاً في الطبقة العاملة. ومن ناحية اخرى فأن الظروف الاقتصادية الحالية الجديدة وتردي الوضع الاجتماعي المعيشي ووجود (جيش من البطالة) وتسريح عدد كبير من العمال والمهنيين تحت سياسة التقاعد الاختياري او التقاعد المبكر كل هذا يحد من قدرة الدولة على تشغيلهم في المؤسسات الحكومية وباقي القطاع العام (كبطالة مقنعة) كما كان يحدث في الماضي. حيث ان الدولة لغاية الان وبرغم سياسة التقاعد الاختياري والمبكر لديها ما يكفيها منهم، وهو الحل الذي يطرحه أنصار رأسمالية الدولة او أنصار اشتراكيتها فلا فرق هنا واضح بينهم. هؤلاء الداعين لتوسيع القطاع العام والدفاع عن وجوده في مواجهة الخصخصة، هؤلاء المتيمين بفكرة الدولة القوية المتدخلة بقوة لصالح العناصر الضعيفة اجتماعياً، كي تستعبدهم الدولة على نحو جماعي في النهاية، وتشتري ولائهم باعتمادهم عليها، وتفقدهم القدرة على الدفاع عن مصالحهم بأنفسهم، وفي نفس الوقت ولأن المهمشون غالباً ما يمارسون عملهم في الاقتصاد غير الرسمي وفي وظائف مؤقتة او تحت التدريب الخ فأنهم اضعف من أن يضغطوا على الدولة او على اصحاب الشركات الرأسمالية من اجل فرص عمل ثابتة وحياة كريمة حيث لا يمكنهم ان يمارسوا الاعتصام او المسيرات او الاضراب وشتى اشكال الضغط الجماعي المنظم والمسئول، حيث لا توجد لديهم نقابات ولا جمعيات سياسية تتبنى مطالبهم وتدافع عن مصالحهم او قادرة على تنظيمهم. وهذا يسقطهم في شباك شراء ولائهم من قبل من هو متنفذ سياسياُ واقتصادياً واجتماعياُ وثقافياً.
يشكل المهمشون بوجودهم المتضخم وضعاً مفيداً للغاية للطبقتين الرأسمالية والبيروقراطية في المراكز العليا في الدولة، وضار جداً بالطبقة العاملة المستقرة والمنظمة والتي تم سحب معظم اشكال وتعبيرات الاحتجاج المسموح بها بعد كارثة الدوار، فالمهمشون فضلاً عن بؤسهم وحالة اليأس، تعاني غالبيتهم الساحقة من تدني مستويات تعليمهم، وتخلف وعيهم الاجتماعي والسياسي، واعتماد بعضهم على عائلاتهم او على الحسنات من الطبقات الأغنى؟، وهذا يضعف من احساسهم بالكرامة والاهمية والاستقلالية وضعف ما يضيفونه من قيمة مضافة الى الاقتصاد. وهذا يقلل من وعيهم بالقهر والاستغلال الواقع عليهم، ويعرقل ويشوه وعيهم الطبقي، ومن هنا يسهل على من يملك المال والسلطة والقوة ان يشتري ولائهم ويشتري اصواتهم في اي انتخابات، او يرغمهم على اعطائه اصواتهم او يخدعهم ويجرهم وراءه ويستغلهم لتحقيق مصالحه فيمكن لأي غوغائي معارض او نائب خدمات او نائب يستغل الطائفية او القبيلة او في الحكم ان يحشدهم خلفه وورائه، شرط ان يغازل تحقيق احلامهم ويجيد مخاطبة غرائزهم وهذا السيناريو شاهدناه في كل الانتخابات التي ككاسري اضرابات او مخربين في الاحتجاجات العمالية والسياسية عموماً. وأخيراً فأن وضعهم الاجتماعي يضعف أساساً من قدرة الطبقة العاملة المنظمة والمستقرة على المساومة الجماعية مع اصحاب العمل الشركات الرأسمالية او بيروقراطية الدولة، فأمام التهديد بإحلال المهمشين بدلاً منهم يضطر العمال المنظمين للقبول بشروط اسوا للعمل من حيث تخفيض الاجور الحقيقية، وزيادة عدد ساعات العمل وغيرها، ومن هنا لن تستعيد الطبقة العاملة قدرتها على النضال الاقتصادي، وقوتها السياسية، التي تآكلت في ظل الظروف الجديدة، الا بتخفيف ضغط المهمشون من على كاهلها. المهمشون يمكن تنظيمهم في عشرات الاشكال من التعاونيات الانتاجية ويمكن للحركة التعاونية ان تحرر المهمشين من وضع تهميشهم المزرى، ومن عوزهم وضعفهم، حيث يمكن ان تمنحهم القوة في مواجهة الدولة والشركات الرأسمالية، وتحميهم من اهدار كرامتهم وحريتهم، وفي نفس الوقت يمكن ان تخفف من على كاهل الطبقة العاملة المستقرة والمنظمة ضغط تضخم حجم المهمشين على قدرتها النضالية الوطنية ولا بد هنا ان تعتني الحركة التعاونية بهذا الخصوص، برفع المستوي التعليمي والثقافي للمهمشين فتحررهم،
من الجهل (بمعني كسب المعارف الجديدة)، وتحول العمال غير المهرة منهم لحرفيين ومهنيين عبر برامج تعلمهم المهمات المختلفة فضلاً عن الارتقاء بالمستوى المهني للمهنيين منهم كل هذا بالتوازي مع ايجاد فرص عمل منتج حقيقي لهم يغرسهم في الاقتصاد الحقيقي، وينقلهم من هامش المجتمع الى مركز المجتمع، وذلك عبر تعاونيات متكاملة الانشطة حيث تقوم بإنتاج السلع وتقديم الخدمات المختلفة بأسعار اقل مما تبيعه المشروعات الرأسمالية لضمان التفوق في المنافسة معها، فضلاً عن اداءها في نفس الوقت الانشطة الخدمية واستهلاكية وتأمينية وتعليمية واجتماعية وتثقيفية لأعضائها.
في العلاقة بين التعاونيات والاحسان.
بمناسبة انتعاش ظاهرة الجمعيات الخيرية والصناديق الخيرية لمساعدة الفقراء والمحتاجين واساليب الاحسان والصدقات الجارية سواء كانت فردية او جماعية سواء كانت عبر جمعيات خيرية (تهيمن عليها جمعيات الاسلام السياسي او تم بواسطة الدولة عبر هيمنتها على الصناديق الخيرية في المحافظات، او تحت ما يسمى بالدور الاجتماعي لرأسمال او بواسطة الجمعيات الاهلية والمؤسسات الدينية، فأنه يؤخذ عليها ان اليد التي تمنح تستطيع ان تمنع، ومن ثم فاليد العليا الحكم والسيطرة دائماً، وما على اليد السفلى سوى الخضوع والذل والخنوع، والشعور بلأمتنان الذي يمنع نقد صاحب اليد العليا مخافة اغضابه ومنع حسناته. والبر والاحسان والصدقات هي في الحقيقة اسلوب لشراء الذمم والولاء والطاعة والخضوع وهنا نرى كيف تنشط جمعيات الاسلام السياسي او الصناديق الخيرية في فترة الانتخابات لحشد هؤلاء الفقراء للتصويت لمرشحيهم في الانتخابات وكيف يتقن نائب الخدمات استغلال الصندوق الخيري لحشد الناخبين وشراء اصواتهم. البديل هو انشاء صناديق ضمان اجتماعي تعاوني في مواقع العمل والسكن، على اسس تعاونية، في مواجهة الكوارث من مثل وباء كورونا واحتياجات الفقراء والمحتاجين الملحة، كخطوة مبدئيه تتطور بالتدرج لتتحول لصناديق ضمان اجتماعي شامل أكثر تنظيماً. ويمكن طبعاً نظراً للظروف الملحة ان يبادر الناس فردياً او جماعياً للمساعدة باعتبارنا بشر لابد وان نشعر بالآخرين حتى نكون جديرين بإنسانيتنا، على ان لا نركن لذلك، وان تتحول مبادرتنا الفردية والجماعية الخيرة نحو انشاء مثل هذه الصناديق التعاونية التضامنية.
المرجع: كتاب التعاونيات اداة للتحرر والتقدم للكاتب سامح عبود.