المشاريع السياسية شأنها شأن الكيانات البيولوجية (الحية) مثل عملية الولادة البشرية، هناك مرحلة ما قبل التلاقح المكون للجنين و بعدها نمو الجنين في رحم الكيان الكبير (الأم – الوطن)، وبعدها المخاض تتبعه لحظة إنبلاج النور في عيني المولود الجديد، الذي يبدأ مسيرة حياته طرياً ناعماً في حاجة إلى رعاية وتغذية مادية وفكرية حتى يترعرع إلى أن يشتد عوده ويصلب ويكتسب حدوداً من المعارف تعينه على تحسس مسيرة حياته، وهكذا يتوالى التوالد وتتواصل مسيرة الحياة، من أطوار أدنى إلى أطوار أعلى.
وهكذا الحال مع مشاريع الإنسان الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والمشروع الإصلاحي لجلالة الملك هو نموذج حي وملموس لهذه الولادة الجديدة والتي هي الآن في أمَسِّ الحاجة إلى الرعاية والتطوير من قبل المكونات البشرية في الوطن، ومن الطبيعي، والتاريخ البشري بماضيه وحاضره شاهد على ذلك، بأن المكون البشري في جميع المجتمعات البشرية ليست كيانات متجانسة بالمطلق، ولكن المصالح الطبقية تدفعها إلى التلاطم والتصارع، ومن الطبيعي أن يمتد الصراع بين القوى الطبقية المتناقضة إلى حرب المشاريع، لأن الكيان أو الطرف المتضرر من أي مشروع جديد يعمل على وأده قبل أن يستكمل المشروع أنفاس الحياة.
والمشروع الإصلاحي لجلالة الملك هو ولادة جديدة في حاجة إلى أنفاس البقاء والتطوير.
السؤال الكبير هو كيف السبيل إلى توفير سبل البقاء والتطوير لهذا المشروع الوطني الجديد؟
للإجابة على هذا السؤال، لا بد أن نعود إلى مرحلة ما قبل الولادة، وكيف أثَّرَ المشروع على طبيعة تلك المرحلة ومكوناتها الفاعلة والمتنفذة في ساحة المجتمع.
في مرحلة ما قبل المشروع الإصلاحي كانت الساحة الاجتماعية والسياسية مرتعاً خصباً تمرح وتجول فيها القوى الطائفية دون منازع، والنزاع فيما بينها كان تحت الرماد، في حين أن أصحاب الفكر الوطني الجامع الذي كان يؤمن بالديمقراطية وبناء وطن يكون حاضناً للجميع دون تمييز عرقي أو ديني أو مذهبي، فقد غَيَّبَهُ زفير أنفاس الطائفية، وكان رموز هذا الفكر الوطني الديمقراطي والتقدمي خارج جغرافيا الوطن.
أمّا الطائفيات، ورغم التناقض والتناحر بينها، إلا أنها كانت تتغذي من بعضها الآخر، إذ أنه لا يمكن لفكر طائفي أن يعيش دون وجود فكر طائفي آخر مناقض له في القوة والاتجاه، وهكذا تكون وحدة الأضداد في البناء الطائفي.
هذه القوى الطائفية لم يرق لها أن تشاركها في ساحتها المحتكرة قوى خارج البناء الطائفي من الفكر القومي والديمقراطي والعلماني والماركسي، وفي الوقت نفسه ما كان يمكن لها أن تقوقع نفسها في دائرة فكرها الرافض للديمقراطية، فوجدت نفسها مضطرة أن تساهم في الآلية الديمقراطية، وهكذا دخلت القوى الطائفية بكل قوة وإصرار البرلمان من أجل أن توقف عجلة الديمقراطية، وهي بعد طرية، وتباعاً لذلك إيقاف حركة المشروع الإصلاحي، إذ أنها ومن خلال هذا المنبر الديمقراطي تستطيع أن تمرر القوانين التي تروق لها وتمسك بأطراف أنشطة الحكم عبر آليات الرقابة التي يمنحها الدستور، ورغم هذه المشاركة في البرلمان إلا أنها تعيش حالة من التوتر الملازم وهي تحت قبة ديمقراطية لا تستسيغها لانها تضم نسبة قليلة ممن هم خارج دائرة الفكر الطائفي ويمكن لهذه النسبة القليلة أن تكبر مع الوقت وتكون دعماً للديمقراطية وتطويرها، وهذا التوتر من الطبيعي أن يدفع أحد الأطراف إلى السير مباشرة ضد المشروع الإصلاحي من خلال رفع سقوف المطالب التي قد تبدو على السطح مطالب وطنية إلا أن في جوهرها طائفية الاتجاه، وعادة ما تكون هذه المطالب ذات طابع سياسي متطرف تدغدغ النزعة الشعبوية في الطائفة وحتى في أطراف من الدائرة الحرة خارج الطائفة، وفعل من قطب في الطائفية يقابله حسب قوانين الطبيعة والحياة رد فعل مضاد له في القوة والاتجاه من القطب المضاد، وعادة ما يكون رد الفعل ذات نفس انتهازي يعمل جاهداً على أن تستقطبه السلطة في تعاطيها مع الأزمة، وهذا الّلُبوسُ الانتهازي مع ردة الفعل لا يهدف إلى حماية المشروع الإصلاحي بقدر ما هو تعزيز للموقع الطائفي لدى هذا القطب ضد القطب المبادر للأزمة.
وهكذا يكون البناء الطائفي قد حافظ على قطبيه خارج دائرة الوعي المباشر، لأن الغريزة الطائفية، مثل نظام المناعة في البناء البيولوجي، تستثار من أجل المحافظة على الذات الطائفية.
وهذا الاصطفاف مع السلطة من قبل قطب طائفي ضد قطب طائفي آخر لا يهدف أن يكون دعماً لتعاطي السلطة مع الأزمة، ولا يعني أنه دعم للمشروع الإصلاحي، بينما هو استقواء بالسلطة من قطب ضد قطب مضاد من أجل تغيير موازين القوى في صالحه، وهذا بحد ذاته أزمة من أزمة، ففي الوقت الذي تتركز فيه العيون والجهود والهواجس على الأزمة الظاهرة وقطبها المبادر، من الطبيعي أن يستحوذ التعاطي مع الأزمة الظاهرة ويغيب الوعي عن أزمة تتولد في إحدى مراحل التكوين،
فمن الضروري والحالة هذه أن تتركز العيون على الأزمة المتحركة، وفي ذات الوقت ترصد الأزمة الكامنة في مراحلها التكوينية المبكرة قبل مرحلة المخاض حتى يمكن وقف عملية التكوين لهذه الأزمة الكامنة والتي تتمتع بمقومات محلية وإقليمية تجعلها أشد وأنكى من الأزمة العاصفة بالوطن والمواطنين والذي طال أمده منذ ثلاث سنوات إلى اليوم، وهذا القطب الطائفي المتربص تحت غطاء الأزمة المتحركة، استطاع بقاعدته المُغَيَّبَةِ عن الوعي الوطني أن يُلْبِسَ الأزمة ثياب الطائفية، بينما الأزمة في جوهرها اجتماعي طبقي بحت، وهذه الخديعة الطائفية يعتبر إنجازاً طائفياً بامتياز، خاصة وأن معظم القوى المحسوبة على التيار القومي واليسار عموماً قد انجرف في التيار الطائفي ودخلت في تحالفات معها، وإذا ما تمادى هذا التعاطي مع الأزمة من منظور طائفي بحت، وهذا يعني أن القوى الطائفية هي التي تمسك بخيوط لعبة الأزمة، فإن تبعات ذلك قد تكون كارثية إن لم يتم تدارك القضية والعمل على علاجها اجتماعياً وليس من المنظور الطائفي ولا من خلال التحالف مع القوى الطائفية.
أزمة كامنة من أزمة، وقطب طائفي متحرك، وقطب طائفي متربص، ودائرة المواطنة الحرة منكوبة مشلولة وقلبها على مصير المشروع الإصلاحي الذي اختطفته الطائفية بذراعها السني وذراعها الشيعي، فكيف السبيل إلى تحرير المشروع الإصلاحي لجلالة الملك من أيدي المختطفين؟
محمد كمال