” تقدميون ” في مواجهة حركة التاريخ!!!

نشرت الصحافة المحلية مؤخرا خبرا مفاده أن «عددا من أعضاء جمعية المنبر التقدمي الديمقراطي الذين سبق وأن انشقوا عن جمعيتهم بعد خلاف على المواقف خلال أحداث فبراير 2011، قد بدأوا بعقد اجتماعات لإطلاق تكتل سياسي جديد يحمل اسم «التغيير الديمقراطي»، انطلاقا من الانتماء العميق

للبحرين وشعبها والسعي إلى ترسيخ مبادئ الديمقراطية عبر ميثاق العمل الوطني والمشروع الإصلاحي، وصولاً للتغيير الديمقراطي المنشود، وتبني مفاهيم تناهض شتى أنواع الاستغلال، وكافة أشكال التمييز، وترسيخ قيم العدالة الاجتماعية، ودولة القانون والمؤسسات، ونبذ الطائفية وأية تدخلات وأطماع خارجية من أي جهة كانت..».
والسؤال الذي يطرحه مثل هذا الانشقاق الذي يبدو انه في الطريق إلى أن يتكرس عمليا هو: ما الذي يدفع مجموعة من يساريي التقدمي الديمقراطي إلى هذا الموقف الذي من شأنه إضعاف هذه الجمعية الضعيفة أصلا بالمعيار العددي، رغم أهميتها السياسية وتجربتها السياسية الطويلة في المعارضة؟
في سياق الإجابة عن هكذا تساؤل في الأوضاع الطبيعية فلا غرابة أصلا من وجود مثل هذه الانشقاقات، لأنها ستكون من طبيعة العمل السياسي ومؤشرا على حيويته، خصوصا أن الأزمات السياسية التي تفرز في العادة مثل هذه الخلافات قد تؤدي في الغالب إلى إعادة توزيع مراكز القوى داخل التنظيم السياسي الحزبي، إلا أن ما حدث أثناء وبعيد أزمة 2011 لم يكن مجرد خلاف سياسي حول برامج أو قيادات أو نتيجة لمراجعات أيديولوجية وفكرية طبيعية داخل نفس التنظيم مثلما يحدث عادة في الأحزاب السياسية، وإنما الذي حدث كان أقرب إلى
«نوع من الفرز الطائفي» تنكره الجمعية وتشير إليه الوقائع، ويعلنه البعض صراحة. ولعل مثل هذا القول-الذي ما يزال في حاجة إلى تدقيق فيه-سيكون أسوأ ما يتعرض له أي تنظيم يساري يحترم نفسه وتاريخه، لأن ابعد تهمة وأكثرها مفارقة لطبيعة أي تنظيم يساري أن يتهم بالتخندق الطائفي.
وأعتقد أن المسألة أبعد من هذا التبسيط في التحليل، فبسبب التشخيص الخاطئ لطبيعة المجتمع والسلطة والمرحلة، وقعت شرائح من هذا التيار، وفي لحظة تاريخية صعبة وملتبسة في مأزق اتخاذ مواقف مزدوجة لا ينم عن نضج: فمن ناحية تم تكريس مواقف عدمية تجاه الدولة التي تم تصنيفها على أنها شر مطلق، ومن ناحية ثانية تم الانجرار وراء نوع من «التحالف مع التيارات الطائفية الأشد معاداة للديمقراطية ولمدنية الدولة، ولمجمل القيم التي ناضل من اجلها اليسار الديمقراطي، وذلك ضمن قرار سياسي مفاده
«الالتحاق بركب الثورة» التي تم اعداد مسرحها في تلك الأيام. ولكن المشكلة أن «تلك الثورة» فشلت بالرغم من ضخامة ما استثمر فيها آنذاك.. ولو كان حدث العكس لكانت الصورة تغيرت ولكان الحلف الذي جمعته العداوة للسلطة تفكك ضمن متطلبات الصراع على السلطة ومقتضيات موازين القوى ولكانت القوة الدينية الطائفية المهينة صفت حسابتها مع نقيضها الأيديولوجي.
والمشكلة – مثلما بينا في اكثر من مناسبة في السابق- أن هذه الشرائح من اليسار وبدلا من أن تكون متناسقة مع مرجعياتها الفكرية والأيديولوجية، فتقف في وجه الطائفية والطائفيين، و”الرجعية” وجدت نفسها في زحمة الأزمة – لأسبابها الخاصة- في أحضان المشروع الطائفي نفسه، في إطار تكتيكات ساهمت في إحراق أوراقه ومصداقيته، باستجداء القرب من جمعية طائفية لها أجندتها الخاصة وهي من وجهة نظر (اليسار) نفسه، وبحسب تشخيصه الفكري والسياسي جمعية طائفية فكرا وبرامج ولا يمكن، وفي جميع الأحوال، أن تلتقي على أي مستوى مع البرنامج اليساري بكافة تعبيراته الأيديولوجية وحتى السياسية، لا من حيث نوعية المجتمع ولا من حيث البرنامج السياسي المنشود. وقد ساعد ذلك على مزيد من تهميش هذا التيار وسط محركات السياسة الرسمية وفقد الثقة في إمكانية التوصل إلى قواسم مشتركة، ولو مرحليا، وفقدان الوزن وسط القوى الشعبية والسياسية كذلك..
إن القوى التي نشأت وتطورت تاريخياً بوصفها معارضة ديمقراطية يسارية تستمد شرعية حضورها من وضوح برامجها السياسية وصدقية تحالفاتها واتسامها بالتناسق مع المبادئ الأساسية للتيار، ومن اعتمادها النشاط السلمي أسلوباً في نضالها، والتمسك بدولة القانون وبآليات العمل الديمقراطي، وبذلك فقط تكون قادرة على كسب ثقة المجتمع عبر استنباط المهام المناسبة للمرحلة التاريخية دون مغالاة، ويفترض بقوى اليسار الديمقراطي التي ناضلت وتناضل من أجل ترسيخ الديمقراطية، وإنجاح المشروع الإصلاحي أن تصطف وراء هذا الهدف الاستراتيجي الذي ينسجم مع حركة التاريخ، فيكون الموقف الديمقراطي- التقدمي انسجاما مع التوجه الإصلاحي، لا دفعا به إلى الخلف، من خلال ممارسات وتحالفات ومواقف لا تخدم التجربة الديمقراطية، بما يسهم في تأخر تحقيق نتائج إيجابية، بما في ذلك النتائج على صعيد الانجاز الديمقراطي نفسه، حيث أن النكوص أو التراجع في هذا المجال لا يخدم سوى القوى المعادية للديمقراطية. وهي بالدرجة الأولى القوى الطائفية تحديدا وبالدرجة الأولى، وإن توهم البعض من هذا اليسار في لحظة التيه أن القوى الطائفية يمكن أن تغير من جلدها السياسي وتصبح فجأة « ديمقراطية».
ولذلك قد يستغرب بعض المحسوبين على «التقدمية اليسارية» نظريا على الأقل عندما نقول لهم بأن السلطة القائمة هي في واقع الأمر أكثر تقدمية في كثير من الجوانب الجوهرية في مواقفها وبرامجها وانجازاتها من كثير ممن هم محسوبين على اليسار التقدمي بكافة تشكيلاته الأيديولوجية. ولكن يختفي هذا النوع من الاستغراب بسرعة بمجرد التقدم في الحوار، حيث يتبين بجلاء أن الوقوف مع السلطة القائمة وما تحقق من إنجازات مدنية واجتماعية وسياسية يكون موقفا تقدميا بمعيار التاريخ، إذا كان في وجه القوى الطائفية الظلامية أو في مواجهة قوى التعصب والتخلف وتقديس الزعامات الدينية ونشر الكراهية بين الناس، أو تقديم الطائفة عن الوطن. وكذلك بمعيار الانحياز إلى الحريات العامة والخاصة أو حقوق المرأة والمساواة في مباشرة الحقوق السياسية، أو بمعيار الإيمان بالدولة المدنية أو بمعيار الإيمان بنسيبة عمل الإنسان القابل للمراجعة والتقييم والتراجع والمراجعة والمحاسبة.
إن المفارقة هنا ان هذا اليسار في عدائه الأيديولوجي للسلطة تنازل عن العداء الإيديولوجي المزمن للرجعية الطائفية، حيث وجد في تيار الإسلام السياسي خزانا للجماهير فاستظل بمظلته للتقرب منه، وهو يفعل ذلك (بكل التبريرات المتهافتة) ففقد هويته الفكرية ونزاهته السياسية، فأصبح (لا هو يسار ولا هو تقدمي).
وللحديث صلة.

منقول من صحيفة الايام – العدد 9095 الأربعاء 5 مارس 2014 الموافق 4 جمادى الأولى 1435

كمال الذيب