في العلاقة بين التخلف والتنمية، قواعد اللعبة

لماذا هذا التردي في الوضع المعيشي للفئات والطبقات الاجتماعية في البحرين ولماذا الحلول له مسدودة من قبل السلطة التنفيذية او التشريعية بالرغم من معاناة المواطن البحريني من هذا التردي الحاد في وضعه المعيشي؟ هناك انواع من التخلف واقسى نوع هو التخلف الخالص المحض اي عندما يقيس البحريني وضعه الاجتماعي عن المتوسط في دول مجلس التعاون فما بالك بالغرب، عندما لا يرجع هذا التخلف الى نقص في الموارد والامكانات، وانما يرجع الى فقدان الارادة السياسية وخصوصاً لدى السلطة التشريعية وتشوش الرؤية المستقبلية لدي السلطة التنفيذية. وهي ترى هذا التردي يزيد كل يوم ويمس قوت المواطن. وليس للتخلف هذا علاقة مباشرة بنوعية الحياة المادية بالرغم من تأثر نوعية حياة الكثير من المواطنين به، فمن الممكن ان تتحسن مؤشراتها من دون ان تلغى التخلف، او من دون ان تحدث التنمية. ان نوعية الحياة المادية للمواطن البحريني مقاسة بجودة الحياة المادية كانت قد تحسنت في السنوات الماضية، ونعني بجودة الحياة المادية من زيادة الحياة في السنة الاولى للأطفال في البحرين، وتحسن مستوى التعليم والصحة ومحو الامية ومن نزول في وفيات الاطفال ومن زيادة معدل اعمار المسنين. ولكن في الفترة الاخيرة كشف ان النمو الاقتصادي السنوي حسب دخل الفرد الحقيقي من الدخل القومي او المحلي قد انخفض؟ فما الذي يفسر تدني دخل الفرد البحريني الى مستوى اقل بكثير عن بقية الدول المجاورة له فما بالك عن الدول التي لا تملك موارد؟ فإن الدول الخليجية التي تمتلك الموارد التي كانت تبدو وكأنها غير محدودة، وإنما أيضاً فوائض مالية ضخمة ادت الى قيام البترو دولار، التي أقرضها الغرب لهذه الدول بغير (حسيب او رقيب)؟. قد يقول البعض بأن نصيب المواطن من الناتج المحلي الاجمالي ليس مقياساً اميناً للجهود التنموية او التنمية المستدامة، فهو اعتراض محق، لكننا عندما نلاحظ ان البحرين على سبيل المثال كانت تمتلك الفوائض المالية قد تحولت الان الى دولة مدينة ويبلغ الدين العام المفروض عليها مبالغ كبيرة؟ بالرغم من وضع خطة ورؤية ٢٠٣٠؟ ان هذا يدفع الى التساؤل عن مدى كفاءة ادائها الاقتصادي وليس تبريراً ان يقاس ذلك بتدني اسعار النفط او الغاز بالرغم من الفترات التي يزداد فيها الدخل من هذا المورد في اثناء النزاعات مثل النزاع الحالي بين روسيا واوكرانيا الخ. وهذا يطرح مسألة قياس الاداء الاقتصادي بشكل أكثر الحاحاً. وماذا عن الوعود بتنويع مصادر الدخل؟ المشاريع التي تتغنى بها المؤسسات الاقتصادية؟ ماذا عن الرؤية الاقتصادية ل ٢٠٣٠؟ وماذا عن استثمارات الفوائض المالية؟ وماذا عن فوائض الاحتياطات المتراكمة ان وجدت؟ وماذا عن التوسع الكبير في القطاع الخاص المحلي؟ هذا التباطؤ والركود والتعثر والتي طرحته كل الاسئلة السابقة الذي نعاني منه لا يمكن تفسيره بالاستناد الى عوامل مادية ومتغيرات اقتصادية بحته. فنحن هنا في مواجهة المكون الاهم في المعادلة التنموية، وهو الارادة السياسية للحد من ركود الجهود التنموية. والتي تحتاج الى كسر حلقة هذا الركود من مثل تنمية الموارد البشرية تفكيك الاحتكارات المحلية والملكية العقارية والذي دخل عليهم قطاع المقاولون الجدد وكذلك قطاع البنوك والبورجوازية المالية والبيروقراطية المركزية في الدولة الخ. تقليل الفوارق في الدخل بين فئات الدخل والطبقات الاجتماعية هي احدى المخارج من هذا الركود للجهود التنموية، بالرغم من انه جرى حراك في تنمية الموارد البشرية الا انه لا زال غير كاف، وبالرغم من طرح برنامج التقاعد الاختياري للتقليل من تكدس القوى العاملة في القطاع العام، بينما لازالت تستورد العمالة الوافدة في القطاعين العام والخاص، ولكن يجب النظر الى كل هذه الخطوات من منظور ان لهذه الظاهرة علاقة بسيطرة الاحتكارات المحلية العائلية على النشاط الاقتصادي ولم ينظر الى ان هذه الاحتكارات (من وكالات اجنبية ومصالح عائلية ومشروعات صناعية ومالية) ربما تقف عقبة في وجه تطوير الموارد البشرية وادخالها الى سوق العمل. هذه المسألة عندما تطرح بهذه الطريقة، يمكن ان تنظر لها هذه الاحتكارات المحلية والملكيات العقارية الكبيرة والعقاريين الجدد وقطاع الرأسمالية البنكية والبورجوازية البيروقراطية المتنفذة في المراكز العليا الخ، بعين الريبة.؟ المطلوب هو فسح المجال لأوسع فئات ممكنة من المواطنين للدخول في القطاع الخاص وكل النشاط الاقتصادي، بحيث نضمن وجود منافسة بين مؤسسات القطاعين العام والخاص، باعتبارهما مصدرا لحيوية الاقتصاد الوطني، وعنصر جذب للقوى العاملة.

هناك مقاربة ومفارقة بين تجارب الدول ونجاح جهود التنمية فيها وبين تجربة البحرين في التنمية. حيث ان بعض الدول التي نجحت في هذا المضمار اعتمدت على احتكارات محلية على المستوى الوطني، ممثلة بالشركات الصناعية والمؤسسات المالية الضخمة. إذا لماذا اصبحت الاحتكارات المحلية عندنا عنصر اعاقة للتنمية؟ الاحتكارات المحلية عندنا هي احتكارات عائلية للوكالات الاجنبية، في كثير من الاحيان للأصول المحاسبية المتعارف عليها، وهي موجهة الى (الاستهلاك) وليس للصناعة، وتقوم مصالح هذه الاحتكارات العائلية باقتطاع جزء كبير من الدخل الناتج وتستثمره خارج الحدود، فلا يستفيد الاقتصاد الوطني منه في شيء، وهذا هو مصدر المقاربة والمفارقة مع تجربة الدولة الناجحة التي لا تقع في الغرب. وهناك جانب اخر (لقواعد اللعبة هنا) وهو تعميق القصور في الجهود التنموية، مما يؤدي الى الركود، فالاحتكارات المحلية العائلية جمدت او شلت آليات تنمية الموارد البشرية بدفع المواطنين (العمالة الوطنية) الى التوظيف في القطاع العام علاوة على انها اضعفت روح المنافسة في النشاط الاقتصادي، فتحولت الى عنصر طرد اضافي للعمالة الوطنية، وعنصر جذب للعمالة الاجنبية في الوقت نفسه. وهي ادت الي زيادة الفوارق في مداخيل الفئات والطبقات الشعبية بين المستفيدة والتي على هامش الاقتصاد الا من حيث قوتها الشرائية؟ كل هذا فتح باب لتسيس مطالب العمالة الاجنبية المتوطنة، اي التي استقرت في البلاد لأكثر من جيل، وكذلك فقدان البحرين افراداً وحكومة، السيطرة على مواردهم المالية المودعة في البنوك والمؤسسات المالية الاجنبية، والتي تستثمرها هذه البنوك على شكل بترو دولار لحسابها وحساب حملة اسهمها من دون ان يترتب على ذلك دخل مماثل للدولة المودعة لهذا البترو دولار؟ وهذا ما انعكس على برنامج دولة الرعاية وخدماتها التي تبنتها البحرين للتخفيف من اثار مواطن القصور في جهدها التنموي وانتهت الى ان تصبح البحرين دولة مدينة، وغير قادرة كما هو حادث اليوم على كبح جماح باب او بند الرواتب والاجور في الميزانية العامة والذي نما بشكل أسرع من النمو في الدخل الوطني. وهنا تعرض الدولة نفسها للانكشاف وهي تحاول ان تقوم بمناورات سياسية واسعة تمهد لتطبيق وصفة البنك الدولي التقليدية التي تنادي  بالغاء الدعم الحكومي للسلع والخدمات وكذلك فرض الضرائب (القيمة المضافة) ورفع السلع الخ التي كانت تقدم عن طريق برامج دولة الرعاية، وهذا التوجه أصبح ينظر له بأنه المفتاح السحري للدخول الي جنة التنمية؟! بالرغم من وجود العلاقات المتينة بين البحرين ودول مجلس التعاون والتي بين فترة واخرى تضخ ما يسمى بالمارشال الخليجي للبحرين. ذلك ان من يقصد البنك الدولي هم فقط الدول المحتاجة التي تفتقر الى الموارد كما هو حادث مع دول عربية مثل لبنان؟ لقد كان تبني سياسات الرعاية الاجتماعية في البحرين ضرورة ملحة تاريخية اقتضتها مصاعب وتقلبات مرحلة الانتقال من الاقتصاد والمجتمع التقليديين الى الاقتصاد والمجتمع الريعيين. الحديثين، اثبتت معظم التجارب أن دولة الرعاية الاجتماعية هي اساس الانطلاقة التنموية الجادة والى الخدمات الصحية والتعليم وتحديث البنية التحتية للبلاد وهناك بعض الدول لا زالت تضمن الوظيفة واستقرار سياسات التوظيف من دون ان يتعارض ذلك مع الانتاجية ان التخلي عن برنامج دولة الرعاية الاجتماعية من دون وجود بديل هو قرار ربما تنقصه الحكمة، بل قد يبلغ ضرره اضعاف الفوائد التي تجنى من تبنيه.

لقد توفرت في بداية المشروع الاصلاحي في البحرين الارادة السياسية للتنمية وحاولت الحكومة أن تعدل من هذا الوضع وان عبر  وضع خطة ورؤية ٢٠٣٠ وتشكلت مؤسسات جديدة مثل تمكين الخ وذلك عبر محاولة فتح المجال للشركات المساهمة الصناعية والمالية البنكية والمصرفية والى حد ما الزراعية التي تسمح للمواطنين بالتملك فيها (من مثل مول ستره)، وبالدخول في منافسة لهذه الاحتكارات، مع ادخال شروط على عمل هذه الشركات كاشتراط توظيف نسبة معينة من العمالة الوطنية، واعادة استثمار نسبة معلومة من ارباحها في نشاط الشركة او في الاقتصاد الوطني عامة، وادخال برامج تأهيل العمالة الوطنية (عبر تمكين)، واعادة تدريبها، مع دعم الحكومة المادي والمعنوي لهذه النشاطات. هنا نقف في المنتصف حيث أن كل هذا المجهود التنموي للأسف لم يفعل بشكل صحيح وكما ذكرنا ولي العهد لقد تم التباطؤ في انجاز  هذا المشروع وهنا لم تضغط هذه الارادة السياسية لأنها اصطدمت مع الطبقات او الطبقة المسيطرة او الحلف الطبقي الضمني (المشكل من الملاكين العقاريين والعقاريين الجدد والاحتكارات المحلية العائلية سماسرة الشركات العالمية وكذلك البورجوازية المالية التي عملت في المضاربة سواء في العقارات او في بورصة سوق الاوراق المالية، وكذلك البيروقراطية المركزية في الادارات العليا للدولة)، والتي تنفذت سياسياً واقتصادياً واجتماعياً في الدولة والمجتمع وتحولت بمرور الزمن، الى جماعات ضغط قوية تتمتع بنفوذ سياسي كبير، لا تستطع ولم ترغب الحكومة الدخول في مواجهة معها؟ وذكرنا نتائج تداعيات هذا الوضع الذي انتج قصور في جهود التنمية وذلك  في الحلقة السابقة. كل هذا أنتج تحول في القيم عبر تغيير قواعد اللعبة في منتصف فترة المشروع الاصلاحي مما ادى الى اختلالات والتي نجمت عن عدم (تناسب القيم)، وبخاصة الاحكام الخلقية مع الحالة الجديدة او النظام السياسي الذي تبلور في هذه الفترة وهنا تم تغيير جذري في قواعد اللعبة الاجتماعية السياسية وهذا نرى تداعياته في الفترة الراهنة. فمن الاختلالات التي نشاهدها بالعين المجردة الاثراء غير المشروع على حساب الدولة، والاختلاس الصريح للأموال العامة (وهذا يتم ذكره من قبل ديوان الرقابة المالية والادارية السنوي) وكذلك ظاهرة الغش والتدليس في المعاملات التجارية، والواسطة والمحسوبية، والرشوة العينية والنقدية، وسوء استغلال النفوذ والسلطة، والاتجار بالممنوعات كالمخدرات، والنصب والاحتيال السياسيان. وكل هذه الاختلالات لم يتدخل فيها القضاء بشكل حاسم ولا السلطة التشريعية العرجاء بينما نجد هناك بصيص من الرأي العام المستنير يحاول ان يبين مدى خطر هذه الظواهر على المجتمع. والسؤال المخيف والمفزع هو: ماذا لو انعدمت ادوات مكافحة هذه الاختلالات بسبب عجز القضاء المستقل ولجان المسائلة والمحاسبة والاستجواب في السلطة التشريعية والتي ليس لديها انياب في استخدام هذه الادوات؟ او الحالة الأسوأ ماذا لو ان الرأي العام الشعبي توقف عن رفض هذه الاختلالات، اي توقف عن ابداء الرأي فيها باعتبارها (شذوذاً عن قيم المجتمع وهي مرفوضة شكلاً وموضوعاً) هل وصلنا في البحرين الى حالة من هذا النوع حيث نتوقف عن اصدار الاحكام الخلقية عليها، فتصبح هي العرف السائد (شلني وآشيلك، نفعني وانفعك، مصلحني وامصلحك) في العلاقات بين المواطنين لان مرتكبيها لا يقعون تحت طائلة القانون، والقانون مكتوف اليدين بسبب انتشارها او استشرائها في النسيج الاجتماعي؟

في سياق الحديث عن الرؤية التنموية للبحرين ودول مجلس التعاون يجب الانتباه الى اهمية البعد الاقليمي في خطط التنمية فقد اصبحت إيران وكذلك اسرائيل مصدراً بؤرة لعدم الاستقرار بالرغم من التطبيع الاخير بين إيران واسرائيل ودول الخليج العربي، بما تشكله سياساتهما وبالذات إيران العدوانية والصراع بين اسرائيل وإيران بالذات وما تمثله من تهديد دائم لأمن المنطقة، واضطراب سياسات دول الخليج وتخبطها نحوهما عبر مراحل الصراع العربي – الايراني والاسرائيلي. وكذلك ارتباط وتبعية دول الخليج للغرب ولروسيا والصين وبالذات امريكا وهذا البعد الاقليمي هو أحد مصادر استنزاف موارد دول الخليج، واحد العناصر المعوقة للتنمية وهو بعد يستنزفه ويستثمره الاصدقاء والاعداء على حد سواء؟ وبالرجوع قليلاً الي الوراء اي منذ انفجار الازمة المالية العالمية في سبتمبر ٢٠٠٨، والرقم المتكرر لخسارة الرأسماليين العربي تتمحور حول ٢،٥ تريليون دولار كما ذكره الامين العام لمجلس الوحدة الاقتصادية العربية احمد جويلي. وهنا لدينا نموذج خليجي وهو (دبي) وكيف انعكست هذه الازمة المالية العالمية على الفوائض المالية الخليجية. بداية دائماً توضع (دبي) سواء عند دول مجلس التعاون او الغرب في موضع (المعجزة الاقتصادية)، خصوصاً وان ليس لديها نفط، وبالتالي جسدت (دبي) كل الحداثة وسط الصحراء بموارد محدودة. ولهذا اصبحت مثال (النجاح العظيم) وصارت (دبي) مركز اهم الشركات العالمية متعددة الجنسية والقومية، ومحط رجال الاعمال وكبار رجال المال بحيث استطاعت ان تمركز المال الهائل من موارد متواضعة، وقد اصبحت المثال الاساس في نجاح العولمة واهمية الليبرالية الاقتصادية. لقد هزمت هونغ كونغ وسنغافورة، حيث استطاعت ان تبني أضخم الناطحات وأعظم جزيرة اصطناعية واعلى برج وأضخم فندق الخ وان تعبر عن كل ما هو خرافي. وبالتالي اصبحت مجال تقليد من قبل الدول الآخرى في الخليج، والمثال الذي يثبت صحة كل الاليات التي باتت تتبعها الرأسمالية وهي تحرر الفضاء المالي، وتطلق التحرر المنفلت في هذا القطاع. ولكن اشرت الازمة المالية في ٢٠٠٨ الى ازمة باتت تعيشها (دبي) ومعها دول الخليج العربي وان تم في البداية الصمت ازائها وكذلك لوجود (ابوظبي) كداعم ويحمي دبي من هذه الازمة وبدت كأنها قادرة على تجاوز الازمة (والصعوبات) التي يمكن ان تمر بها. لكن الفقاعة انفجرت وتبين ان شركة واحدة من شركاتها تعاني ازمة مديونية تبلغ ٥٩ مليار دولار، وان مجموع ديونها يصل الى حوالي ٨٠ مليار دولار. وتبين ان شركة دبي العالمية وفرعها النخيل عاجزة عن سداد مبلغ ٣،٥ مليار دولار مستحقة، فتقدمت دبي بالطلب من الدائنين تأجيل الدفع لمدة أشهر رغم ان ابوظبي قد دفعت مبلغ عشرة مليارات دولار لدبي وحملت دبي الدائنين مسئولية ما جرى وبانها لن تحمي الشركة.

أن تأثير الازمات من خارج دول مجلس التعاون ومنها البحرين والنموذج الذي نقارن به انعكاس هذه الازمات على جهود التنمية وهو نموذج التنمية في (دبي)، على شكل انفجار الفقاعة هو من تداعيات الازمة التي بدأت في اسواق العقارات الامريكية وصحيح انها شملت كل العالم. والتي تفجرت في مختلف انحائه، وذلك ناتج عن سياسة التحرير المالي قد اوجدت تضخمات هائلة في الاقتصاد العالمي قامت على الديون والمشتقات المالية، والنشاط في (اقتصاد افتراضي). وبهذا اصبحت الكتلة المالية التي تنشط خارج الاقتصاد الحقيقي هو عشرات اضعاف الرأسمال الموظف في قطاعات الاقتصاد كلها. ونشاطها كله يقوم على تشكيل فقاعات مالية تتكئ على مديونية مرتفعة (وهي قد بلغت في شركة دبي العالمية في تلك الفترة ثلاثين ضعفاً من قيمتها الحقيقية). اذن الاوهام كلها حول التراكم المالي الذي يأتي من النشاط المالي على هامش الشركات الاحتكارية سقطت تاركة كتلاً من الاسمنت والحجارة خاوية في دبي؟ ذلك ان دبي ودول الخليج العربي ومنها البحرين ركزت على السياحة والقطاع العقاري وقطاع الخدمات لكي تبني (قاعدة تحتية) لنشاط الشركات العالمية، صحيح ان هذا جعل من دبي (معجزة). ولهذا كان من المنطقي ان تدخل الازمة على ضوء الازمة العالمية؛ حيث انسحبت الشركات العالمية بسرعة، الامر الذي ادي الى انهيار القطاع العقاري والسياحة والخدمات. وهنا يبدو كما حدث في دول الخليج ومنها البحرين انها انكشفت على الدائنين لأنها فقدت الكثير من مداخيلها؟ ربما أصبح الوضع في دبي يوضح مشكلة (نموذج الوهم الاقتصادي) الذي تغذى على التضخم المالي، وتحرير الفضاء المالي؛ حيث تم لمس السهولة التي باتت يمكن الحصول عبرها على الديون، فقد أصبح ممكناً ان تحصل شركة على ثلاثين ضعفاً من قيمتها من دون ضوابط ولا قيود. وهو الامر الذي سيفضي بالأساس الى ان يكون مردود الشركة عاجزاً عن الايفاء بأقساط الديون، فكيف إذا تراجعت المداخيل؟ ومن ثم يمكن ان يتم لمس كيف ان انفجار الفقاعة في دبي وباقي دول الخليج على مناطق واسعة من بريطانيا الى الهند الى وول ستريت. فشركة دبي العالمية صارت مدينة الى البنوك البريطانية بمبلغ ٥٠ مليار دولار، والفرنسية ب ١١،٣ مليار دولار والالمانية بمبلغ ١٠،٦ مليار دولار، والولايات المتحدة ١٠،٦ مليار واليابان ٩ مليار دولار، اضافة الى تأثير الانهيار على رؤوس الاموال الموظفة من اطراف مختلفة، وكذلك أثر الانهيار على استثمارات دبي على الصعيد العالمي بمعنى ان ازمة دبي هي نموذج مثالي ل الازمات التنموية التي نشأت عن تحرير الفضاء المالي، نتيجة الحاجة الموضوعية بعد التراكم الهائل في الاموال التي لا تجد مجالاً للتوظيف في الاقتصاد الحقيقي. وهذه هي الازمة الحقيقية التي باتت تحكم النمط الرأسمالي، وبأن هذه الازمة المالية العالمية قد نهبت مبالغ هائلة (٢،٥ تريليون دولار كما اشير حينها) من الدول الخليجية نتيجة الإفلاسات والانهيارات في الشركات الامريكية. وهذا الرقم كبير حينما نعرف بأن الرأسمال الخليجي كان قد بلغ حوالي ٢ تريليون دولار قبل بدء الازمة اي في ١/٩/٢٠٠٨ بمعنى ان الخسارة هي خمسة اسداس المال الذي تملكه دول الخليج؟ وهو رقم يثير الالم أكثر مما يثير الرعب لان هذا الرقم كان سيقود الجهود التنموية في دول الخليج الى مجال أرحب لو تم استخدامه بعقلانية. ان هذا الوضع يطرح ويشير كذلك ألى آليات النهب التي تبقي التركز المالي منحصراً في المراكز، وفي الولايات المتحدة خصوصاً. وكيف ان حل الازمة المالية التي هي اساس في بنية النمط الرأسمالي، يتم على حساب(الاضعف) وهو ما يعني دوام النهب وبالتالي اعاقة الجهود التنموية وعبر خسارة تريليونات اخرى؟!

هذا الوضع يطرح مسألة الفوائض النفطية وعلاقتها بالجهود التنموية، فالمتابع لمسألة بيع النفط وصيرورة الفوائض الناتجة عنه والى اين تذهب، حيث يتركز التوظيف الخليجي في البلدان الرأسمالية ذاتها، او يوظف في قطاعات هامشية ولا يرتبط بالقطاعات الاقتصادية الآخرى بحيث يلعب دور في تنمية الاقتصاد المحلي بشكل عام. ويوظف كذلك في المساعدات للدول العربية التي تعاني من تدهور اقتصاداتها. فقد اوضحت دراسة وضعت في ٢٠٠٢ و ٢٠٠٦، بأن مداخيل البلدان الخليجية بلغت ما يقارب ١،٥ تريليون دولار من الصادرات النفطية، استهلكت الواردات السلعية والعسكرية من البلدان الرأسمالية ما قيمته تريليون دولار، بينما ذهب الفائض والبالغ نصف تريليون دولار معظمه الى البلدان الرأسمالية ذاتها، فحصلت الولايات المتحدة على حصة مقدارها ٣٠٠ مليار دولار  واوروبا على حصة مقدارها ١٠٠ مليار دولار، وذهب ٦٠ مليار دولار الى شرق اسيا (اليابان والصين) ووظف الباقي في بلدان الخليج ذاتها اضافة الى ان هذا الفائض وظف في السنوات الاخيرة على الحروب التي افتعلتها دولة الملالي ايران سواء في اليمن او العراق او لبنان او سوريا  وحتى في المملكة العربية السعودية عندما ضربت مصافي النفط وهددت السفن في باب المندب الخ من العبث الذي مارسته هذه الدولة والتي كانت تستنزف هذه الفوائض المالية من دول الخليج، بالرغم من هذه المعادلة حكمت الفوائض النفطية الهائلة التي حصلت بعد ذلك، ونتجت عن المضاربات على النفط في ٢٠٠٧ و ٢٠٠٨. وربما هذا يفسر تضخم الكتلة المالية الخليجية لتصل الي ٣ تريليون دولار في سبتمبر ٢٠٠٨، وهنا سنلمس بأن الكتلة المالية الاساسية من الفوائض النفطية توظف في البلدان الرأسمالية ولاحقاً في مواجهة الحرب التي تشنها إيران ومليشياتها بالوكالة في منطقة الخليج وباقي الدول العربية، بالرغم من ان دول الخليج قامت بعد الارتفاع الهائل في سعر النفط  بتوظيف جزء محدود مِن فوائضها في البلدان العربية، لكن تركز التوظيف في القطاع العقاري بالأساس وفي السياحة. بالرغم من هذا الوضع الذي نشطت فيه الاموال كان هشاً؛ حيث تركزت على التوظيف في العقارات والسياحة في البلدان الرأسمالية وفي المنطقة كما في البنوك وفي شركات تنشيط المضاربة، بمعني ان جل توظيفاتها كانت خارج الاقتصاد الحقيقي، او على هامشه. واذا كانت دبي قد تأسست الى حد ما بعيداً عن توظيف الفوائض المالية فان التركيز على القطاع العقاري، وفي سياق سياسة تنطلق من بناء (وضع فنتازي) يكون قاعدة لجذب الشركات العالمية ورجالاتها، فان الازمة التي مرت بها دبي قادت الى مراكمة الديون دون مقدرة على سداد اقساطها نتيجة هروب (الشركات العالمية) وقتها وهنا يمكن ان نلمس مشكلة دبي، التي جرى ترديد بانها قد تعافت من هذه الازمة بعد ان قامت ابوظبي بسداد فوائد الديون من خلال افتتاح البرج الاعلى في العالم ؛ حيث تكفلت ابوظبي بسداد ديونها وهذا سوف يحمل ابوظبي عبئاً يستنزف الفوائض المالية التي يوفرها النفط ؛ حيث ان تملكها لبعض مقتنيات شركة دبي العالمية، ومنها البرج، سوف لن يفضي الى حصولها على مردود يعوض لها ذلك ان العودة الى النشاط في الابراج والعقارات سوف يأخذ وقت طويل. لكن المسألة الاساس هنا هي السؤال عن طبيعة التوظيف الذي حكم دول مجلس التعاون؟ حيث سنلمس بأن الكتلة الأساسية من الفوائض تذهب الى الدول الرأسمالية، وهي توظف هناك في هوامش الاقتصاد الرأسمالي، او يبقى تحت سيطرة البنوك الرأسمالية، صحيح ان التوظيف هناك يدر ربحاً اعلى، لكن وجود الارباح تلك غير مضمونة وهذا يجعل دول الخليج مرتبطة بتلك الدول وسيطرتها حيث اصدرت الولايات المتحدة مبدا كارتر ؛ الذي جعل الخليج جزء  من الامن القومي الامريكي كما تم ادخال قطر  كعضو مراقب في الناتو ضمن اطار غزو روسيا ل اوكرانيا، وسنلمس هنا بأن هذا الوجود الذي استنزف فوائض طائلة، فرض معادلة جديدة تحكمت الولايات المتحدة بها، وقامت على ضبط حركة الرساميل النفطية اي الاستيراد  الضخم من امريكا واعادة الفوائض الى البنوك الامريكية. ولهذا فأن تعامل دول الخليج محكوماً بالموافقة الامريكية. هذا هو الدور الذي لعبه الغرب والذي لعبته دول الخليج في النظام الاقتصادي العالمي.

المراجع:

  1. كتاب اراء في فقه التخلف / الكاتب الراحل خلدون النقيب
  2. كتاب الامبريالية في مرحلتها المالية الكاتب سلامة كيلة.